أنت هنا

قراءة كتاب ريترو

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
ريترو

ريترو

يتكئ فرحات على سيرته الذاتية ومحطاتها المؤثرة التي طبعت بميسمها شكل حياته ومزاجه الشخصيّ، ماراً باللحظات الأكثر حميمية وتأثيراً في ذاكرته، مستذكرا شخوصاً ولحظات حافظت على ألقها في ذاكرة الكاتب وظلت مُشعّة رغم مرور الزمن.

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
المؤلف:
الصفحة رقم: 1
1
 
جريدة الإتحاد
 
"شيخ كوفطان: خفيدك فرخات بيكرا جريدة الاتخاد "
 
لم أتبيّن أبعاد هذه التّهمة حين واجهني بها جدي المرحوم قفطان حلبي وأنا ما زلت فتى يافعاً في الخامسة عشرة من عمري. كنت طالباً في الصّفّ التّاسع في الكليّة الأرثوذكسيّة العربيّة في حيفا. كان الباص يقلّنا، زملائي وأنا كلّ صباحٍ إلى المدينة لتلقّي العلم في مدارسها الثّانويّة، وللدقّة، إلى مدرستين: المدرسة الثّانويّة البلديّة أ والكليّة الأرثوذكسيّة العربيّة. وبما أنّ الكليّة كانت مدرسة خاصّة، فقد كانت انتقائيّة وفرضت شروط قبول صعبة أدّت بمعظم طلاّب قريتي إلى الالتحاق بالمدرسة البلديّة. قال لي أبي يومها محذّراً: لا تلتفت للسّياسة، وكأنّني أفهم ما معنى السّياسة، هذه مدرسة جيّدة، تعلّم واستفد. بعدها بقليل بدأت أفهم ما عناه أبي، فمدرسة البلديّة تابعة للنّظام بينما الكليّة تتبنّى مشروعاً وطنيّاً قوميّاً ممّا أدّى بمعظم أهالي الطّلاب في قريتي إلى أن يمشوا الحيط الحيط ويا رب السترة..
 
- مش فاهم شي يا جدّي!
 
قاطعني أبي بلهجة ندم محاولاً تحمّل المسؤوليّة :
 
- الذّنب مش ذنبه، أنا اللّي بطلب منو يشتري لي كل يوم جريدة الاتحاد شو بدّك يعني إقرأ جريدة اليوم ؟ ( جريدة سلطويّة كانت تصدر في حينه)
 
قال جدّي مازحاً :
 
- وشو الفرق ؟ كلها جرايد
 
- لا يا عمي الفرق كبير – قالها أبي بجديّة بالغة وكأنّه أمام هيئة محلّفين
 
- يا جماعة، أجا لعندي اليوم على المجلس واحد من الشاباك يشكيلي على فرحات إنو بيقرا جريدة الاتحاد في الباص وهو راجع على البيت من المدرسة.
 
كان جدّي قفطان، مختاراً لقرية دالية الكرمل، ومن ثمّ، اُنتخب رئيساً للمجلس المحلّيّ لفترة زمنيّة طويلة حتّى وافته المنيّة إثر مرض عضال . كنت أحبّه وأخشاه في آن، ولذا احترت في أمره . كانت له شخصيّة أخـّاذة . وجهه أبيض حادّ المعالم، عيناه لامعتان في وجهه، يغمز هذا ويداعب ذاك، بحضوره القويّ والكاريزما الطّاغية. أنيق المظهر بلباسه العربيّ المتمثّل بقمباز الروزا والحطّة البيضاء التي تعلوها عمامة مستديرة أشبه بالطّربوش، بيضاء اللّون. كان مهووساً بالنّظافة، أنيقاً، لا يخرج من بيته قبل أن يرشّ على ذقنه ولباسه عطراً فاخراً. ورغم أنه كان أميّاً إلاّ أنّه بحدسه وفطرته استطاع أن يدير شؤون البلدة بحكمة ودراية عاليتين. وبسبب مواقفه الوطنيّة المتمثّلة في رفض التّجنيد الإجباريّ، فقد عانى ما عاناه من المؤسّسة الصّهيونيّة الّتي دأبت على محاربته طيلة سنوات عمله السّياسيّ.
 
- يا سلام شو هالجرم الكبير - قالها أبي بسخريّة وتذمّر.
 
- فعلاً أمر سخيف بس الجماعه ماخذين الموضوع بشكل جدي - قالها جدّي وهو يغمزني بعينه ليطمئنني .
 
- مين اللي أجا لعندك يا جدي ؟ شو يعني الشاباك ؟ أسأل ببراءة صبيّ لا يعلم وأنا أنظر إلى أبي تارة وإلى جدّي تارةً أخرى .
 
- إترك الموضوع ولا تشغل بالك، اذهب وقل لأمّك أن تحضّر وجبة الغداء فجدّك لا يزورنا كلّ يوم .
 
يبدو، ولم أكن أعلم ذلك حينها، أنّ قراءة الاتحاد قبل أشهر قليلة من حرب حزيران عام 1967 كانت بمثابة مغامرة كبرى قد تسوق بالمرء إلى متاهات من سين وجيم وربّما أكثر من ذلك . على أيّ حال " زمطت بريشي " كما يقول المثل العامي لصغر سني . أما جدّي، فقد اهتمّ أن يوصيني عند خروجه من بيتنا متعمّدا ألاّ يسمعه أبي بأن أمتنع عن شراء جريدة الاتحاد حتّى لا أفتح عيون الواشين عليّ " فأولاد الحرام كثار " كما قال .

الصفحات