(الحاج خليل البحري: الذاكرة)

 

دلف الحاج كنعان الرومي إلى باحة دارته المربعة في شارع المينا في مدينة يافا· كانت الساعة قد قاربت الثامنة من مساء الخميس الموافق الرابع والعشرين من شهر كانون الأول للعام 1945· وبشكل استثنائي كان الجو غائما وماطرا يتخلله هدير الرعد وومضات البرق التي تغشي الأبصار··· ربما بسبب ذلك أمر الحاج كنعان نادل مطعم السلطان أن يبكر في تقديم وجبة العشاء لموظفي شركته بمجرد التئام شملهم· لقد اعتاد الحاج كنعان مجاملة موظفيه مساء كل خميس في هذا المطعم الراقي، الذي يتربع على قمة تلة السلطان المطلة على ميناء المدينة، وأفق البحر الأبيض المتوسط من خلفه يمتد ليذوب في السماء الغربية· كان يحلو للحاج كنعان أن يحضر مباشرة من شركته ليجلس إلى الطاولة المجاورة لنافذة المطعم الغربية والعريضة، لما تتيحه من مجال فسيح لرؤية البحر لا توفره طاولة أخرى· كانت فترة العمل المسائية تنتهي في السادسة مساء، باستثناء أمسية الخميس، التي تغلق فيها شركة المتوسط الحديث للاستيراد والتصدير أبوابها في الساعة الخامسة· آنذاك يغادر موظفو الشركة العشرون إلى بيوتهم من أجل راحة قصيرة، وربما من أجل تغيير ملابسهم، استعدادا للعشاء التقليدي الذي يوثقه الحاج كنعان في عقد عمل كل منهم: تدفع الشركة راتبا شهريا مقداره كذا جنيها فلسطينيا، إضافة إلى عشاء خميس أسبوعي في مطعم السلطان··· كان الحاج كنعان رجلا نزيها بكل معاني النزاهة· لقد اعتاد الموظفون على احترامه لكلمته التي لا تحتمل سوى معنى واحد، فعشاء الخميس كان يرحل إلى مساء الجمعة إن تعذر اللقاء التقليدي لسبب طارىء·

 

لقد كانت أمسية ذاك الخميس أمسية غير عادية؛ إذ استمع الحاج كنعان إلى نشرة أخبار إذاعة الشرق الأدنى البريطانية قبل أن يغادر مكتبه· تحدث المذيع عن مشاريع اقتصادية كبرى تعتزم الولايات المتحدة الأمريكية تنفيذها في اليابان، بعد توقيعها في الثاني من أيلول المنصرم وثيقة الاستسلام غير المشروط للولايات المتحدة· جاء ذلك بعد أن أعلنت اليابان استسلامها للولايات المتحدة، في الخامس عشر من شهر آب من ذات العام، إثر إسقاط الولايات المتحدة الأمريكية قنبلتها الذرية الثانية فوق ناجازاكي في التاسع من الشهر نفسه· كانت الأمور قد استقرت لقوات الحلفاء في الجبهة الأوروبية، بعد توقيع ألمانيا النازية وثيقة استسلام مشابهة في الثامن من أيار من العام نفسه· وإلى فترة قريبة، كان الحاج كنعان غير مصدق لاحتمالات فوز الحلفاء بالحرب··· أحب أن يرى نهاية للوجود البريطاني في فلسطين بعد أن لمس بشكل واضح التهديد الصهيوني لبلده··· لقد كبرت تل أبيب إلى أن تلاصقت أحياؤها بأحياء مدينة يافا، مع فارق التفوق العمراني الذي جلبه المهاجرون اليهود معهم من بلادهم الأوروبية، ففي حين كانت مباني مدينة يافا تتشكل بمعظمها من الحجر والجير، ولا يدخل في تدعيمها سوى القناطر الحجرية، وأحيانا الجسور الحديدية، كان المهاجرون اليهود، بما تقدمه لهم الوكالة اليهودية من مال وخبرات