أنت هنا

قراءة كتاب يسمعون حسيسها

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
يسمعون حسيسها

يسمعون حسيسها

رواية "يسمعون حسيسها" للشاعر والروائي أيمن العتوم، الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت وعمان، تتناول قصّة طبيب أمضى سبعة عشر عاماً في سجن تدمر في سوريّة للفترة من 1980 حتى 1997.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 1
(1)
 
الصّفصاف والسَّرو
 
مثل أيّ طفلٍ في القرية، نما عالَمي بين أشجارٍ ظليلةٍ تحكي قصّة الذّاهبين، وبين حقولٍ مورقةٍ تروي فصولاً من حياة الرّاحلين··· كانت السّحب العابرة في الأيّام المُشمِسة ترفعني إليها عبرَ خيالاتي المُجنّحة··· وكانت الفراشات في فصل الرّبيع تغطّي كلّ شيء بما في ذلك صفحة وجهي السّمراء، وكانت النّحل تهب عسلها للرّائحين والغادين عن طِيب نَفْس، ولا تطلب مقابلاً حتى ولو كانت مجرد كلمة شكرٍ عابرة، وكانت الورود تزكم أنوف الطّيور بروائحها الشّذيّة، قبل أن تعبق في أنوف البشر أنفسهم··· وكنتُ أجد بين أشجار الصّفصاف والسّرو مساحة للرّكض السّاذج تعبيرًا عن انطلاقات عفويّة لا يملك طفلٌ في مثل سِنّي لها رَدًّا· وفي الينبوع الصّغير الّذي يتفجّر من رأس الجبل ويهوي إلى الوادي كنتُ أجد فرصةً للاستحمام الّذي لا ينتظر دورًا ولا إذنًا من أحد··· هل كانت هذه الجنّة؟! إذا كانت هذه كذلك فأين جهنّم إذًا؟! مَنْ يدري ماذا يستتر خلف الغد···؟!
 
مَنْ يتحكّم بماضيه ليصنع مستقبله؟! مَنْ يعلم موعد العاصفة القادمة لكي يقف على قارعة الطّريق فيتنحّى جانِبًا ويسمح لها بالمرور قبل أن تقتلعه معها إلى الفضاءات الذّاهلة، فيصبح نُثارةً في مهبّ الرّيح؟! لو كنتُ يومها أعرف قيمة القلم والورقة، لرسمتُ غدي الحالِم بيدي قبل أن ترسمه كائنات خارج الإنسانيّة لا تعترف بالبشريّة مُطلَقًا، إنّها كائنات قادمة من الجحيم نفسه!! وحينما كنتُ أتلهّى بتعريف الجحيم وقراءة الآيات الّتي تُخبر عنه لم أكن لأفهمه إلاّ عندما صرتُ في قلبه تمامًا، وصار هو في قلبي· لا أحد يعرف الجحيم أكثر منّا؛ نحن الّذين كُنّا هُناك!!!
 
هل كانت أمّي تعرف ما يمكن أن يخبّئه القدر لطفلٍ لاهٍ مثلي؟! وهل كان أبي يُدرك أنّ الجحيم يُمكن أن يتشكّل في الحياة الدّنيا قبل الآخرة، وأنّ على الأرض نموذجًا له يُعدّ حقيقيًّا إذا ما عاشه المرء، وتنقّل بين دَرَكاته؟! ولأنّه لا أحد يعلم الغيب، فقد غرقتُ في لُجّ القدر؛ {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوْءُ}!!
 
يا إله السّماء: كم ناديتك لكي لا تتركني مع الوحوش، ثمّ لم يكن للوحوش الوالِغة في دمي أيُّ ارْعِواء!! يا إله السّماء السّابعة: كم ناجيتُك لكي تُبقي على ما تبقّى من كينونتي الّتي انتزعوها من تحت جلدي ثمّ تركتَهم يستمرّون في انتزاعي منّي حتّى لم أعد أنا··· أنا!!! أيّ حكمةٍ تتجلّى لي لكي أَعِيَها عنك يا ربُّ، والسّباع تَغِل في دمي ولا تكفّ عن شربي حتّى آخر قطرة من روحي!! يا ربّ السِّدرة: حِكمتَك؛ فإنّي لم يعد لي منّي شيءٌ أستبقيه ليوم الفهم الأكبر!! يا ربّ المُنتَهى: لو كان المُنتَهى أن أنتهي قبل أن أروي عن القادمين من الكوكب الآخر لضاعت الحكمة إذًا؛ ولاختفى التّجلّي، ولامّحى الفهم!! يا ربّ الوحوش والكائنات الغريبة والمخلوقات الّتي لا تُشبه البشر في شيءٍ: ساعدني لكي أقول ما ينبغي قوله!! ساعدني لكي أنجح في قتل الخوف الّذي شرّش في أعماقي على مدى سبعةَ عشر عامًا!! ساعدني لكي تكفّ السّياط الّتي لا زلتُ أتخيّلها - بعد كلّ هذا العمر- تصطفق داخل رأسي صباح مساء، ولا تَنِي عن نَهْشِ خلاياي، والفَتْك بعِظامي!!
 
طال شعرُ رأسي، وتهدّل جزءٌ منه على كتفي، كأيّ شابٍّ في السّبعينيّات كنتُ أجد في ذلك لذّة غامضة لا تحتاج إلى تفسير، وكان بنطلون (الجينز) موضة العصر، إضافةً إلى قميص (الكاروهات) ذي الياقة الواسعة الّتي تغطّي نصف الأكتاف؛ ها أنذا مثل كلّ جيلي من الشّباب، أجدُ في الحياة متعةً يمكن أن تُقتنص إذا ما غفل الحادي، ونامت أعين الرّقباء··· غير أنّ أبي سرعان ما قضى على كلّ ذلك بتشدّده الكارثيّ؛ صار يُمسك بياقة القميص الواسعة ويشدّني منها حتّى أكاد أختنق، ثمّ يعمد بعد ذلك إلى (الجينز) المعلّق خلف الباب فيُعمِل فيه المِقصّ، وفي بِضْع لحظاتٍ يرميه على الأرض قِطَعًا مُمَزّقة، ويصيح فيّ قبل أن يلطمني على وجهي:
 
- أنا مربّيك لَتْصير خنيث!!
 
- بَسْ هَيْ···
 
- خْراس يا ولد، ولا تْبَسْبِسْلِي··· يا ويلك إزا شِفتك مرّة تانية بها الهِبّز المجنون تبعك!!
 
ويتركني أصحو رويدًا رويدًا على استبدادٍ يبدو أنّه موروث، أو ربّما أوحتْ به حكومات لم تُبقِ على شيءٍ لم تستبدّ به!!
 
غير أنّ أبي الّذي أذاقني من العذاب صنوفًا يستحقّ اليوم منّي الرّحمة الوابلة لسببين، سوف يتبيّنان لاحقًا·
 
في البكالوريا رفع أبي المسدّس في وجهي، وصرخ بكلّ ثقة:
 
- إزا ما جبت المجموع إلّي بِفَوْتَكْ كلّيّة الطّبّ، والله لفَضّي هالرّصاصات بْراسك!!
 
ومرّة ثانية، وجدني أجلس تحت شجرة بلّوطٍ في تلك الأيّام، ولم تكن بين يدي كتب البكالوريا، فأمسك بجذع شجرةٍ غليظٍ، ثمّ رقى بجسده الّذي يزيد عن (120) كغم، فقفز على ساقيَّ الممدودتين تحته حتّى كاد يكسرهما، وصاح وهو يتميّز من الغيظ:
 
- قاعِد مِتْلِ الكلب هوني··· هي كلّيّة الطّبّ بتستنّا كلاب مِتلك لَيْفوتُوّا!! مَ هيك يا كلب!! والله لَوَرْجِيك!!

الصفحات