أنت هنا

قراءة كتاب أحلام الياسمين في زمن الرخام

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
أحلام الياسمين في زمن الرخام

أحلام الياسمين في زمن الرخام

تمزج رواية الدكتورة آية عبدالله الأسمر "أحلام الياسمين في زمن الرخام"، الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت، بين الحب والمشاعر الانسانية والواقع السياسي والاجتماعي في عالمنا العربي.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 1
الفصل الأول
 
دخلت أحلام شقتها الصغيرة وأخذت تنظر في جميع أرجائها وزواياها كأنها تتفحصها لأول مرة، فبالرغم من أنها تسكنها من شهر إلا أنها لم تعتد عليها بعد· جميع الجدران كانت خالية إلا من ساعة حائط خشبية على شكل كوخ بني، يعلوه قرميد أخضر عُلقت في غرفة الجلوس، ومرآة مستطيلة مؤطرة بإطار ذهبي رفيع معلقة على حائط غرفة النوم المواجه لباب الشقة·
 
ولأن طاولة الطعام بكراسيها الست من الخشب البني الداكن، وكذلك طاولة بيضاوية تتوسط كنب غرفة الجلوس بفرشه الأخضر الباهت، فمن السهل جدًا من النظرة الأولى ملاحظة ذرات التراب والغبار المُكدسة هنا وهناك على جميع قطع الأثاث، ولا سيما على جهاز التلفاز متوسط الحجم بلونه الأسود وطاولته الصغيرة السوداء بزجاجها الأمامي· وعلى زجاج مكتبة صغيرة التهمت كتب السنوات الماضية التي التهمتها الأغبرة المتدافعه من النافذة المفتوحة المجاورة لها، حتى أكواب الشاي المنسية من الليلة الماضية، وكتاب مادة الوراثة الجزيئية بغلافه الأزرق، لم يسلم شيء في الشقة من المناورات الاستطلاعية الروتينية لجنود الغبار والأتربة·
 
حتى سريري وسرير سوسن ومكتبها وخزانتها وحقيبة ملابس من الجلد الأخضر، لم أجد لها مكانًا تحت السرير بعد أن أفرغتها من محتوياتها، فوضعتها بجانب مكتب سوسن، جميعها تعلن بجرأة إهمالنا لها وتتهمنا بالتقصير في تنظيفها والعناية بها، إلا أن اتهامها أقل جرأة من اتهامات قطع أثاث غرفة الجلوس بسبب لونها البني الفاتح، أعلم أن كلا الغرفتين يعاني من القدر نفسه من الأتربة ووطأة الأوساخ، وأن كلاً منهما يجسد المشكلة ذاتها، إلا أن قدرتهما على الاحتمال تختلف، مثل بني البشر، منهم من يتحلى بقدرة هائلة على التعبير، عن الغضب وعن البكاء وعن الاستياء والثورة، وعن الفرح والضحك والامتنان والحياة، ومنهم من يتحلى بقدرة هائلة على الصمت، على حمل عبء الحياة بكبرياء يقتلع من مآقيهم الدمع ومن تربة حناجرهم صوت الشكوى وجذور السخط حتى تهدأ زوبعة أعمارهم بسلام·
 
تنهدت أحلام ملء رئتيها وألقت حقيبتها على سريرها، ذهبت إلى المطبخ لتخرج من البراد كوب لبن، وتفاحة حمراء صغيرة وقطعة جبن بيضاء فتناولتها جميعها بسرعة ولا مبالاة، وكأن معدتها قطة جائعة تريد أن تتخلص من موائها بأي شيء تلقيه لها حتى تكف عن مضايقتها، ودون أن تبدل ملابسها ارتمت على سريرها لتخلد إلى النوم·
 
استطاعت أحلام، إثر تعب يوم جامعي مثقل بالمحاضرات والمختبرات، أن تغرق في نومة عميقة استمرت ثلاث ساعات متواصلة، فلم تشعر بصديقتها سوسن التي جاءت تزحف على أرصفة التعب الذابلة تحت أغصان خريف حافٍ إلا من الغبار الحزين والشجن الأصفر، دخلت سوسن إلى الغرفة بابتسامتها الملائكية الهادئة التي امتزجت بشيء من الشفقة وكثير من الحنان، عندما قرأت سطور التعب على وجه أحلام النائم، فأحضرت لها غطاءً خفيفًا ألقته عليها بحدب، ثم نزعت نقابها وحجابها وجلبابها ودخلت إلى الحمام لتتوضأ وتصلي صلاة الظهر قبل أن يحين وقت العصر·
 
كانت سوسن من أولئك البشر الذين لا يمكن أن تنساهم، لا يمكن أن تكرههم أو حتى تنتقدهم، ولا يمكن لك حتى أن تصبح مثلهم، مهما حاولت، لأنهم نتاج سنوات طويلة من الرعاية الأسرية الهادئة والتربية الدينية المعتدلة، فلقد نشأت سوسن في بيت مزركش بتفهم أب واعٍ، ومطرز بحنان أم مثقفة، ومرصع بحب أخوات حنونات، أي أنها ترعرت في أحضان سوية بالرغم من ظروف أسرتها المادية الصعبة، فلقد كان والدها رجلاً عصاميًا مكافحًا، وصل إلى مرتبة أستاذ جامعي بجهده وسهره وتعبه، ولم تقف أبحاثه وأعماله حاجزًا بينه وبين بناته، فدأب منذ صغرهن يعلمهن كيف يكون المرؤ إنسانًا حقيقيًا ليحيا حياة حقيقية، أخذ يقسم لهن العالم وبني البشر إلى صدق وكذب، خير وشر، أمل ويأس، حب وكراهية، وعلمهن كيف يفرقن بين الجرأة والوقاحة، بين الحياء والخجل، بين الكبرياء والغرور، بين تواضع النفس وهوانها، بين البساطة والسذاجة، بين الحرية والانحلال، بين غنى النفس وغنى الحبيب، بين الجد والكد والتخبط والنزق، بين التوكل على الله في كل مسعى والاتكالية عليه في كل أمر·
 
ولم يكن لينجح في ذلك من دون والدة هي بحر من الحنان لا قرار له، وفضاءٌ من الثقافة والوعي لا أفق له· لم تكن والدة سوسن موظفة إلا أنها لم تكن إنسانة جاهلة، ولم تكن عبئًا على المجتمع بطلباتها ومتطلباتها، بل كانت عطاءً بلا حدود لزوجها وبناتها الثلاث وأقربائها وجيرانها ولكل من عرفها·

الصفحات