أنت هنا

قراءة كتاب الركض وراء الذئاب

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الركض وراء الذئاب

الركض وراء الذئاب

رواية "الركض وراء الذئاب"؛ تدور احداث هذه الرواية في اديس ابابا ، حيث تبعث وكالة الصحافة الاجنبية في نيويورك احد صحفيها الى افريقيا لكتابة تقرير عن مثقفين فارين من بغداد للإلتحاق بالجيش الاممي الذي اسسه منغستو في اثيوبيان وهناك يلتقي هذا الصحفي بزمنين: زمن

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 2
اغتراب
 
لم أزر العراق، بلدي الذي ولدت فيه، منذ أن غادرته قبل أكثر من خمسة وعشرين عاماً· عمري الآن هو الخامسة والأربعون، وقد أمضيت أكثر من نصف عمري خارجه· لم أكن منفياً سياسياً أو لاجئاً أبداً، ولا محكوماً بالإعدام مثل كثيرين ممن أعرفهم هنا· ويندر أن تجد شخصاً مثلي يعترف بذلك· فكثيرون هنا يدعون أشياء لم يصنعوها في حياتهم، ولكنها تضفي عليهم هالة كبيرة كسياسيين ومنفيين ومناضلين وسجناء سابقين، حتى وإن لم يكونوا كذلك·
 
أنا لم أعمل بالسياسة يوماً قط، وإن كنت أخفي مواقف سياسية متعاطفة مع الشرق الأوسط، ومواقف سياسية متعاطفة مع قضايا العالم الثالث ضد الاستعمار، وهو ما يصنف تحته اليساريون عادة· إلا أن عملي في الـأم آي سي Media in cooperation كان محايداً تماماً، فأنا أعمل فيها محللاً للأخبار السياسية والاقتصادية الخاصة بالعراق، وهي وكالة محايدة أيضا·ً تزود الصحافة وأصحاب القرار بالتحليلات والمعلومات عن الشرق الأوسط، وبعض المناطق الساخنة من العالم· 
 
ومن جهتي أنا فقد درست هنا، وتعلمت أن أكون محايداً ونزيهاً في مهنتي· ومن البداية ألزمت نفسي بمهنتي وعملي وحياديتي، وكنت مثل الجراح لا يهمني الآلام التي أسببها للضحية طالما أن الأمر يتعلق بشرف المهنة ونزاهة العمل·  أما وجودي في أميركا فقد كان طبيعياً· قلت طبيعياً لأني مع أول فرصة للدراسة في الجامعة، قررت البقاء هنا· وبعد تخرجي، منذ أكثر من خمسة وعشرين عاماً شغلت هذا العمل، محللاً سياسياً لشؤون الشرق الأوسط في الوكالة الأجنبية للصحافة الأم آي سي عملت بشكل محدد خبيراً بالشؤون السياسية للعراق الحديث· ومنذ عملي هنا، كنت تخفيت تماماً عن كل ما يخصّ البلاد التي جئت منها خوفاً من وضعها السياسي الآسن في ذلك الوقت، وكخبير في شؤونها السياسية والثقافية قدمت تقاريري وتحليلاتي للوكالة باسم مستعار· فقد كان الاسم المستعار هو الصيانة الحقيقية لوجودي ولكياني، ومن خلاله أوجدت نفسي وقدمت عملي، ومارست جميع أوجه حياتي· ولا أحد يعرف اسمي الحقيقي حتى زوجتي التي قلته لها آلاف المرات، وكانت كل مرة تنساه، وتطلب مني أن أذكره لها· ومن ثم عشت هنا في نيويورك· وتزوجت من امرأة أميركية منذ أول عام دخلت فيه البلاد، ولدي أولاد يعيشون مثل أي أميركي آخر، يأكلون الهمبرغر ويتابعون أفلام هوليوود، ولا يعرفون عن البلاد التي جاء أبوهم منها غير القصص الخيالية الشهيرة مثل مصباح علاء الدين، والسندباد البحري، وهي القصص التي يعرفها كل طفل في أوربا وأميركا تقريباً· 
 
عشنا أنا وزوجتي ماري ـ أطلق عليها ميمي للاختصار ـ في أماكن متعددة من أميركا· لم تكن حالنا أول زواجنا مثلما هو عليه الآن، أبداً، فقد تغيرت حياتنا عشرات المرات· لقد تغيرت مواقعنا مرة إثر مرة· وكنا نترقى ونتحول من موقع إلى آخر· في بداية حياتنا كان الأمر صعباً تقريباً، ولكنه مختلف جداً عما هو عليه الآن· فقد اشترينا شقتنا هذه، الواقعة جنوب شارع هيوستن، والتي نسكن بها أنا وميمي والأولاد مؤخراً· وهي شقة راقية جداً، وبصراحة: أنا أحببت هذا الشارع ـ شارع هيوستن ـ إلى حد الشغف· وأنا أطلق عليه وطني، ربما لأن أغلب الناس الذين تراهم هناك هم من المتبضعين لا من الساكنين، من المتنزهين لا من المتجذرين· وما أضاف عليه هذه القيمة الكبيرة هو تاريخ ساكنيه طبعاً، فقد جاءه في الستينات والسبعينات والثمانينات الفنانون بسبب الفراغات والأماكن الشاغرة، ثم ملأوا الحيّ بشكل تدريجي· وأنا أتذكّر إلى الآن كيف كانت بنايات هذا الشارع ذلك الوقت فارغة، فقيرة جداً· ثم تطور هذا الشارع، حتى أخذ يقطنه ممثلون مشهورون، رسامون، موسيقيون: مثل ساره جيسيكا باركر، ماثيو برودريك، وليني كريفتس والعشرات الآخرون··
 
في الواقع، كانت ميمي تخطط بشكل جيد· نعم أنا أعترف بذلك· إنها أميركية حقيقية، أميركية أصلية، وليست مزيفة من تلك النساء اللواتي بعد عامين أو ثلاثة من حصولهن على الجنسية الأميركية، يرتدّنّ إلى هويتهن الأصلية، ويغبن في عالمهن الذي جئن منه· ميمي امرأة مختلفة· حين أقول مختلفة، تمر بذهني كل أفعالها الرصينة بدءاً من شرائنا لشقة متواضعة في عمارة موصدة أمام حائط أسود ومبقع· شقة في الطابق الأرضي في البداية، كانت مطلة على فناء يقابله مطبخ حانة، ومطعم متخصص في البطاطس المقلية التي كان الغارسون الأسود يعدها على الأرض، ومن ثم انتقالنا إلى الدرب السادس، في الطابق الثاني من عمارة تقابل متاجر ضخمة، وفي شارع واسع وراق، حيث اشترينا شقة كبيرة، بل كبيرة جداً، قامت ماري بتزيينها وتأثيثها أثاثاً كلاسيكياً: بيانو كبير  ـ لا أحد يعزف عليه ـ فوتيلات كبيرة وواسعة، طاولات من الخشب الفاخر، وطلت الجدران بلون تفاحي باهت تتراقص عليها الشمس أول الصباح·
 
طبعاً هذه المسيرة التي أختصرها الآن بأسطر قليلة، كانت حياة مليئة بالتعب والمفاجآت· ولكن حينما يرقد المرء بعد طول تعبه على أريكة مريحة، ويصمت أمام شرفة واسعة، ويرى مكاناً مضيئاً، وشوارع فارهة، وعمارات راقية، ومتاجر كبيرة، ينسى دون شك ضيق الشقة القديمة، ونافذتها الصغيرة الوسخة التي تطل على حائط أسود، وشمسها التي لا تظهر إلا على حائط مبقع، ومن أسفله فوهة المياه الثقلية التي تتجشأ زيت قلي البطاطس·

الصفحات