أنت هنا

قراءة كتاب مدينة الله

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
مدينة الله

مدينة الله

  "مدينة الله" رواية الروائي والقاص الفلسطيني الدكتور حسن حمي، عن منشورات المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر، ومن غير القدس يمكن أن تكون مدينة الله؟!

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 1
إشارة لابدَّ منها
 
أعترف،
 
أنه ليس لي يد في هذه الرسائل، فأنا لا أعرف السيد فلاديمير الذي كتبها، كما لا أعرف السيد إيفان الذي كُتبت إليه·· فقد عرفت الاسمين من الرسائل، ومن العنوانين: عنوان المُرسل السيد فلاديمير، وعنوان المرسل إليه السيد إيفان··
 
كنت في مكتبي، في بيت الشرق، في القدس·· حين جاءتني السيدة وديعة عميخاي، كان الوقت صباحاً يلفه مطر خفيف·· فوجئت مرتين: مرة بمجيئها وسؤالها عني، ومرة لأنها دفعت إليَّ هذه الرسائل·
 
كنت، وقبل أربعين سنة، قد اتبعت دورة تأهيل في الأرشفة، وكانت السيدة وديعة عميخاي واحدة من الدارسين في الدورة· معرفتي بها بسيطة، وعادية·· لا تتعدى حدود أنها تعرف مكان عملي في بيت الشرق، وأنني أعرف مكان عملها في البريد المركزي، في حي زخرون موشيه، لا أخفي على أحد أنني تخوفت، بل خفت، من زيارتها·· لكنها بددت خوفي، وبضربة واحدة، حين قالت لي: جئت أزورك، وأودعك، وأعطيك!! قلت: خيراً، سيدة عميخاي· قالت: أنا مريضة جداً، وأيامي معدودة، السرطان أكلني أو كاد (بدت كذلك فعلاً) ·· إن صدقت توقعات الأطباء، فأنا لن ألحق بتوديع معارفي كلهم·· قلت متأثراً: خسارة ياسيدة عميخاي· قالت: أشكرك، هذه هي الزيارة، وهذا هو الوداع·· فأنا لا أنساك·· لأنك كنت ·· من أبدى طلاب دورة الأرشفة التي انخرطنا فيها معاً·· قبل أربعين سنة·· كان فهمك، وسرعة إنجازك يغيظانني دائماً· فابتسمتُ، وأضافتْ: أما ما سأعطيك إياه فهو هذه الأوراق، وهي رسائل كنت أراقبها في مركز البريد، وهي لزائر روسي كان يكتبها لأستاذه الجامعي في جامعة سان بطرسبورغ الذي علّمه اللغة العربية··· وسبب مراقبتي لها هو أخبارها، وقصصها، وسبب احتفاظي بها هو أسلوبها الأدبي الرائع، لعلك تعرف جيداً محبتي للغة العربية وشغفي بها، فقد سحرتني هذه الرسائل ·· على الرغم مما فيها من غُصّات·· وأكاذيب·
 
قلت: ولماذا تعطينني إياها؟! قالت: أنا أريد الذهاب إلى الجنة، ولهذا أتيت بها إليك كي أكفر عن ذنبي باحتجازي لها وقتاً طويلاً· قلت: أليس لك معارف، هم أجدر بها مني· قالت: معارفي إن عرفوا ما فيها لن يرسلوها، بل سيحرقونها· قلت: وما المطلوب مني؟ قالت: أن تقرأها، وأن تتخير الطريقة المناسبة لإرسالها إلى عنوانها، أعني إلى السيد إيفان··· فلعله ما زال ينتظرها·· قلت: كم مضى من زمن والرسائل بحوزتك؟ قالت: عشر سنوات أو أكثر بقليل· قلت: وقت طويل· قالت بأسى: وقت طويل· · فعلاً، سامحني يا رب··
 
ومضت السيدة عميخاي، كانت متهالكة تماماً، يجرها أحد معارفها في كرسي طبي·· مضت ولم تشرب شيئاً من شاي بيت الشرق أو قهوته؛ رُغم إلحاحي عليها؛ كانت تمتص بعض الرشفات من زجاجة الماء التي بحوزتها· وحين غادرتني شيعتها إلى باب المركز، وحين صارت الرسائل إلى يدي، حرت ماذا أفعل بها· ولم أجرؤ على قراءتها إلا عندما علمت بموت السيدة عميخاي·
 
الآن، وبعد أن قرأتُ الرسائل التي أدهشتني حقاً··، أرسلتُ رسالة صغيرة، موجزة إلى عنوان السيدة جورجي إيفان في جامعة سان بطرسبورغ·· أُخبره بموضوع الرسائل، وسألته أن يرشدني إلى الطريقة المثلى كي أرسلها إليه، فهي من حقه·· وانتظرت الإجابة·
 
ولكم صدمت حين كاتبتني أمانة سر الجامعة تخبرني أن السيد جورجي إيفان ترك التدريس في الجامعة، وأنه غادر بطرسبورغ إلى جهة لا يعرفون عنها شيئاً·· فحزنت· ولم أقف عند هذا الحد، فأرسلت رسالة إلى الجامعة نفسها، أسألها عن السيد فلاديمير بودنسكي، وانتظرت الإجابة· فقيل لي إنه ذهب إلى إسرائيل في زيارة، ولم يعد منها· لذلك ·· قمت بنشر إعلان في الصحف الإسرائيلية والعربية معاً، رجوت السيد فلاديمير، أن يتصل بي، أو الذين يعرفونه أن يتصلوا بي لأمر ضروري وجوهري·· وتركت للجميع أرقام هواتفي، ولكن دون جدوى·
 
ولم أقنط من البحث عنه، فذهبت إلى إدارة السجون، وسألت عن السيدة سيلفا ( ···) صديقة فلاديمير، فقيل لي، بعد ألف عذاب وعذاب، إنها ماتت منتحرة··، ولم أقنط، فبحثت عن السيدة أم أهارون مؤجرة فلاديمير، في سجلات المكاتب العقارية·· لكنني لم أحظ بمعرفتها··أيضاً·
 
·· ولم أقنط، فسألت في دائرة السياحة، قسم (الأدلاء) عن السيد جو مكملان، الحوذي الذي عمل دليلاً للسيد فلاديمير بودنسكي، فقيل لي إنه غادر البلاد، ولا يعرفون له عنواناً·
 
ولم أقنط، فذهبت إلى مقهى في قلندية، وسألت عن السيد فلاديمير، فتأسف صاحب المقهى لأنه ما عاد يراه، وامتدحه كثيراً·
 
لكل هذا··، ولأن المرء قليل بنفسه، استشرت أصدقائي، وسألتهم ماذا أفعل بالرسائل، فأشاروا عليَّ بنشرها في كتاب·· فوقعت على رأيهم، وهذا هو ما أفعله هنا· لم أتدخل بمادة الرسائل إطلاقاً، لم أغيّر، أو أحوّر، أو أدوّر سطراً واحداً فيها·· كل ما فعلته هو أنني محوت الأرقام المتسلسلة التي وضعتها السيدة وديعة عيمخاي للرسائل بالقلم الأحمر·· لأنها ليست من وضع السيد فلاديمير بودنسكي·

الصفحات