أنت هنا

قراءة كتاب الأعمال القصصية

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الأعمال القصصية

الأعمال القصصية

"الأعمال القصصية"؛ رغم ان بعض هذه المجاميع الست التي يضمها المجلد قد طبع أكثر من مرة سواء في بغداد أو بيروت أو دمشق أو القاهرة فإن طبعاتها قد نفذت كلها وأصبح العثور على نسخة منها أمرا متعذرا·

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 6
انني ما زلت أتذكر كل الماضي بنفس ذلك النقاء الذي أضعته فيما بعد وأحس كأنني أتعبد في مسجد واسع· وفي اليوم الذي دخلت فيه المدرسة جلست على رحلتي ولكن خيالي كان مشدودا إلى زقاقنا وناهض وقسمة وعائد وأمي والحمائم، وشعرت بالغربة وسط هذه القيود وأنا الذي اعتدت أن أقفز حافيا من سطح إلى آخر، وبصقت عند رؤيتي للمعلم الأصلع القميء وتساءلت:
 
- كيف يمكنني أن أرى وجهه المقرف كل صباح؟
 
وذات يوم وضعت في جيبه نواة مشمش· وقد تسببت الحادثة في استجواب جميع الطلاب ولم يصلوا إلى الجاني الحقيقي وعوقب أحد زملائي بعشرين ضربة عصا بسببي·
 
كنت عاقا يا يسرى ومشحونا بنزوات وانطلاقات كثيرة ولو أنك رأيتني ذلك الوقت ببنطلوني القصير وساقي السمراوين المليئتين بالكدمات، ولو رأيت شعري الذي كان والدي يصر على قصه بالموسى ولا يترك له أثرا، لو رأيت كل هذا وعشت معي صباي النزق لربما ضحكت من ذلك الماضي·
 
لو كنت مثل صبيحة جارتنا الصغيرة حيث كنا نمثل معا دور العروس والعريس ولكنها لم تدخل مدرسة بعد ذلك ولم تتعلم وقد تزوجت مبكرة من قريب لها، وعندما رأيتها بعد سنين كانت تبدو كالقرويات القادمات إلى المدينة فضحكت في سري: كيف أحببتها يوما؟
 
وفي ذات يوم ثارت ثائرتي على رشدي ذلك الطفل الذي كان ينافسني في الشراسة وكنا قد اتفقنا آنذاك على شراء كرة كبيرة وقد جمعنا المبلغ فلسا فلسا حتى نؤلف بعد ذلك فريقا ينازل فريق شارع الهواء ومحلة الجديدة والسيف1· ولكن رشدي كان يصر على أن يكون الرئيس ولم أرض بذلك فقد كنت مارقا متكبرا منذ طفولتي وهذا الداء لاحقني حتى الأخير وتحول إلى كبرياء قاتلة شوهت بعض مشاريعي وأفقدتني صداقة الكثيرين· وقد تشاجرت معه أمام جمع من الأولاد وكان قويا حقا وكاد أن يدحرني لولا مجيء أبيه الذي أوطرني ضربا فوقعت كالقتيل وتجمع أقربائي وأقرباؤه وكانت معركة حامية الوطيس استعملت فيها العصي والأحذية والعقل والطابوق ولم تشهد المحلة مثيلا لها، وقد أنفق والدي وابن أخيه ليلتهما في موقف الشرطة لأن ابن عمي قد شج رأس أحد أقرباء رشدي، لكن غريمي قد أصبح صديقي فيما بعد ويبدو أن الشر قد استحوذ عليه حتى الأخير وقد سمعت بأنه الآن نزيل أحد السجون·
 
كانت الدنيا حلوة كالسباحة في النهر في أمسيات الصيف وليست كما هي عليه الآن فالدروب قد أقفلت أمامي وعيناك هما المنفذ وهما مصب الأحزان القاتمة ونشيد البدء الموعود·
 
وهنا أنا الآن على سطح الدار بعد عشرين عاما ولكنني لست كما كنت في الماضي، أمي انتهت وناهض وقسمة، ومدينتي الأولى هجرتها بحثا عن المجد والخلاص ولم أعد طفلا يرتدي بنطلونا قصيرا وساقاه مليئتان بالكدمات، فأنا اليوم رجل طويل أسمر الجبهة، أحلق ذقني كل صباح وأشاكس النساء في الدروب والباصات، أشياء كثيرة تغيرت يا يسرىوربما أنت كذلك فقد طال أنيني أمامك دون أن تحاولي انقاذي، أعد النجوم ولكني لن أخاف من أن تنبت في يدي ثوءلولة، وقبلك أحببت يا يسرى وهمت بعيون من أحببت وقلت الشعر وثملت وقبلك يا يسرى عشت مع الساقطين والمشردين وأفلست وجعت وجاهدت، لكن الغريب أن وجهي خال لا يحمل شيئا من هذا ولو كان الماضي يترك حزوزا لكانت جبهتي تثير قرفك ولم تحمل عينيك على الالتفات صوبها طويلا·
 
ويوم رأيتك أدركت أنها نهاية المطاف، ولكن يبدو لي أن الأمور ستبقى ضدي حتى الأخير لذا ترددت كثيرا قبل أن أكلمك·

الصفحات