أنت هنا

قراءة كتاب مدارات الذاكرة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
مدارات الذاكرة

مدارات الذاكرة

اختار فالح الطويل لسيرته عنوان "مدارات الذاكرة"، حيث تعمد الجمع بين الذاكرة الشخصية والسيرة ويبدأ سيرته بعام "الثلجة الكبيرة" سنة ولادة الكاتب عام 1934م، "مدارات الذاكرة" سيرة فالح الطويل الذاتية -وهو دبلوماسي أردني سابق، وعضو في مجلس الأعيان- يغطي الجزء ال

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 9

قصص ثوار فلسطين استمر أخي يرويها لنا، بعد أن عاد من حيفا نهائيا، وهي قصص كثيرة مليئة بالبطولات· قال لنا أن الثوار شددوا على اليهود والإنكليز أثناء الحرب· كانت طائرات الألمان في ذلك الوقت تدك المدينة في غارات لا تنقطع·
كنت أعرف عن الحرب الثانية· ولذلك لم يكن ما يقوله أخي محمد غريبا علي بل زادني أخبارا عنها· سمعت عن تلك الحرب لأول مرة عندما رأيت السيدة كاتبة تقرأ في جريدة أن طائرات الألمان تدك معسكر فايد في السويس· والسيدة كاتبة هي السيدة الوحيدة في القرية التي تستطيع أن تقرأ الجريدة، وكانت شامية من دمشق·
كانت، تلك المرة، تهز رأسها أسفا، أثناء القراءة، وتقول أن الإنكليز الملاعين أسقطوا ثلاث طائرات للألمان· شعرت بالحزن· ولكنها قالت بأنها تظن أن الإنكليز يكذبون، فأحسسنا جميعا بالاطمئنان·
سألتها إحداهن:
- ما هو معسكر فايد، هذا!!
فقالت السيدة كاتبه
- هذا معسكر للإنكليز المحتلين على قناة السويس··· والحرب بين الإنكليز تدور في السويس وفي العلمين غربي مصر
لم أنس تلك الأسماء وفيما بعد في المدرسة كنت أعرف أكثر من أقراني عن الحرب الثانية وحيفا والسويس، والعلمين·
قال أخي محمد بأن الطائرات الألمانية تساعد ثوار فلسطين ومنهم الزناتية·
بقيت حيفا رمزا لكل ما أحبه وأعشقه· امتلأت بشوارعها، وبيوتها وبحرها، ورجالها من الزناتية والزعبية وأخي· رويت لنعيم ومسلم ومنصور وأولاد عمي فيما بعد قصصا كثيرة عن حيفا، وخاصة تلك المرأة الجميلة التي فتحت لي ولأبي باب بيتها في تلك الليلة وقادتنا إلى غرفة ننام فيها· ذكرت لهم بالتفصيل صدرها الأبيض الذي كاد يتكوم على رأسي عندما مالت علي تريد تقبيلي· كان ذراعاها عاريين ينكبان من كتفها مثل الحليب، وأبطها مكشوفا ونظيفا، كانت عارية·
وجهت كلامي كله لنعيم الذي كان يعض على يده تحرقا لمزيد، فإذا أفلتت يده من فمه، أخذته موجة هستيرية من ضحك هو أشبه بالصراخ·
عندما قفلنا راجعين أمسك بيدي
***
اشترى لي أبي صاية فلسطينية صفراء لونها فاقع كالورص· الناس في حكما لا يلبسون الصايات الصفراء· يقولون أنها لباس النور فقط، فاللون المقبول والمعروف للصاية لديهم هو اللون الفضي· لذلك صارت صايتي مثار سخرية·
ومما زاد الطين بلة أن الصاية كانت قصيرة ولم يكن منظر قدمي وحذائي المثقوب مقابل الإصبع الصغرى في قدمي الأيسر جميلا أيضا· كان على أهلي أن يثقبوا كل حذاء جديد لي، وإلا التهب ذلك الإصبع اللعين الذي لازمني سنوات طويلة من حياتي· كم تمنيت لو خلقت بدونه·
كنت قد دخلت قبل أن أدرك حقيقة الأشياء حولي فرنا تحرق فيه الخبازات الزبل مساء ليكون جاهزا لإعداد الخبز صباح اليوم التالي· قيل لي فيما بعد، أنني ذهبت أبحث في الفرن عن بيض مشوي كانت أمي قد شوته هناك في الصباح للإفطار، وظننت أنه لا زال في الفرن ينتظرني· شبت النار بقدمي· فزعت على الصراخ امرأة عمي التي كانت قريبة من الفرن· انتشلتني، هلعة علي، من اللهب· كانت قدماي تحترقان أمام عينيها· لم تعرف ما ذا عليها أن تفعل· أسقطتني، في شبه غيبوبة من الفكر الفاعل، في حوض مليء بالماء·
لم يكن عليها أن تفعل· فبعض المعارف المتوارثة في القبيلة تشير إلى أن الماء يسقط الجلد المحترق على الفور ويحدث تشوهات كثيرة· أطفئت النار ولكن سقطت خلال مدة قصيرة أصابع قدمي حسب شدة الاحتراق فيهما· سقط نصف الإصبع الأصغر لقدمي اليسرى التي لفوها بعصابات· وعندما شفي الحرق تبين بأن بقايا ذلك الإصبع علقت بقدمي بزاوية قائمة· فصار بسبب تعرضه شديد الحساسية يلتهب، برأسه المدروم وجلده الرقيق، إذا مسه شيء· ولذلك دأبوا على قطع حذائي ليسمحوا لرأسه أن يطل على الهواء الطلق·
بقيت امرأة عمي تلوم نفسها كل مرة تراني لا أفرح كما يفرح الصغار بحذاء جديد· ماتت المسكينة قبل أن تعلم بأنها في تسرعها غير المألوف وإسقاطي في الماء قد أنقذتني· فقد تبين لاحقا بأن الماء هو افضل علاج لحرق الجلد الحي إذا كان الماء كثيرا ويغمر المنطقة المحروقة كلها· لقد تصرفت بعفوية حين أسقطتني في حوض الماء بفعل تأثير لا واع للعقل الجمعي الموروث لأهلها· وامرأة عمي فاطمة السمر- هذا هو اسمها- لم تكن من أصل عربي· فقد جاء أهلها في القرن الخامس عشر من كازاخستان·
ولو كانت عربية لما استخدمت الماء ولربما انتظرت في إطفاء الحريق أحدا ينجدها باللبن الذي كان يستخدم في الحروق الخفيفة، وربما ستكون النار قد أتت على كامل قدمي وساقي قبل أن يبدأ العلاج· كثيرون هم الذين تصدر بحقهم أحكام ظالمة ولا تثبت براءتهم إلا بعد أن يكونوا قد فقدوا حياتهم· كم في الحبس من مظاليم، كما يقولون· إن إحساسي بالجميل لتلك المرأة مشوب اليوم بكثير من الحكمة، وهما، كلاهما، لم تعودا مفيدتين لها!
لا أذكر أنني لبست الصاية أو الحذاء قط، ولا حتى في الأعياد، بعد الحفلة التي استقبلت بها أول مرة لبستهما فيها· عندما خرجت خارج بوابة دارنا وجدتهم جميعا ينتظرونني وراء الجدار: أحد أعمامي، وأولاد أعمامي الكبار الذين كان الكثيرون منهم يضربونني ليس لأنهم يكرهونني بل لأنني أصغر منهم، وآخرون من أقراني جاءوا يشاركون ويسمعون· قفزوا جميعا باتجاهي بسحجة واحدة، يضحكون كعادتهم، يغنون لي كعريس يجلى·
- طلع الزين من الحمام سلم سلم يا سلام·
حمل لي تقدمهم نحوي خطرا داهما: كانوا أثناء اقترابهم ينظرون في عيني غير عابئين ما إذا كانوا سيدوسون أثناء تقدمهم على إصبعي التعيس المطل عليهم من حذائي المثقوب· أحسست بالخوف الشديد، فهربت منهم عائدا إلى بيتنا باكيا وأسارع بخلع ملابسي الجديدة تلاحقني ضحكاتهم التي لا تعبر عن فرح·

الصفحات