أنت هنا

قراءة كتاب مدارات الذاكرة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
مدارات الذاكرة

مدارات الذاكرة

اختار فالح الطويل لسيرته عنوان "مدارات الذاكرة"، حيث تعمد الجمع بين الذاكرة الشخصية والسيرة ويبدأ سيرته بعام "الثلجة الكبيرة" سنة ولادة الكاتب عام 1934م، "مدارات الذاكرة" سيرة فالح الطويل الذاتية -وهو دبلوماسي أردني سابق، وعضو في مجلس الأعيان- يغطي الجزء ال

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 10

لا أذكر أنني رأيت واحدا منهم باستثناء أبي يضحك بفرح· فإذا فعل فإنهم جميعا يهرعون إلى حيث يجلس ليستمعوا للقصة التي أضحكته· وكانت في الغالب قصة تروى· كان من الذين عرفوا بشدة الأمانة والإيمان بالله وبالقدر، وبالقدرة على الغضب، والرضا· لقد جنده الأتراك في حربين قبل الحرب العالمية الأولى· أسر، في الأولى، في اليونان· ولما أطلق سراحه عاد ليجد أخاه الأكبر وقد قبض عليه الأتراك وكانوا على وشك تسفيره فتبرع بافتدائه· فسافر سفر برلك للمرة الثانية· ولم يعد إلا بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى·
عندما عاد من سفره، ذات مساء، وجد الناس يحتفلون بزواج أخيه الأصغر· فزوجوه في تلك الليلة أخت العروس· كان أخي محمد أخا غير شقيق اعتنت به أمي فيما بعد وأحبته فكان لنا ذلك الذي وصفت·
استمع أبي لي ذات يوم أروي قصصا لأولاد عمي عن رحلة حيفا· يبدو أنها أعجبته كثيرا· سمعته يقول لأمي في الليل بينما كنت متمددا في الفراش لم أغف بعد:
- هذا الولد إما أنه كذاب، أو أنني لا أرى حولي·
- كيف؟
سألته أمي· قال:
- سمعته اليوم يحكي للأولاد عن سفرنا إلى حيفا عن أشياء لم أرها، على الرغم من أنه لم يفارقني لحظة واحدة إلا وقت صلاة الجمعة حينما تركته في دكان محمد وقتا قليلا· يتحدث عن أبو زيد الهلالي والزناتي خليفة واليهودي الذي كان يبكي، بينما سيف زيدان شيخ الشباب يلوح بسيفه فوق الرؤوس واليهود ينبطحون أرضا خوفا علي رؤوسهم من أن تنقطع· وأشياء أخرى كثيرة كنت أضحك وأنا استمع لها· وصف رأس محمد الآغا، أبو ردن الذي رأيناه عند فالح الزعبي، بأنه يشبه القرعة ضيق من أعلا منتفخ عند الخدين ومدور عند الذقن· وقال أنه عندما يضحك يسمع صوته يعود إلى كرشه فيبقبق من هناك·
- طالع لخاله، لمين لعاد!!
- أرسله للخطيب، بكره·
كان أبي قد أعد منذ الصباح الباكر، وقبل أن أتذكر ما كان من حديث الأمس، اللوح الذي سوف أتعلم عليه الخط· وهو قطعة من التنك منزوعة من صفيحة بنزين كان الإنكليز قد تركوا منها الكثير في حكما حين حفروا في كل السهول خنادق، وبنوا قلاعا من الأسمنت والحديد ذات فجوات مغطاة بشبك حديد من الخارج قيل أنها استحكامات عسكرية لمقاتلة الألمان عندما يصلون· وقد تحولت الاستحكامات فيما بعد لمخابئ لنا نلعب فيها لعبة تخبأ أدور عليك·؛ كما تحولت الخنادق في الشتاءات التالية إلى بحيرات· ولم يستطع أبي أن يحرث من الخندق الذي كان في أرضنا سوى سفوحه المائلة· أما الجوانب العمودية فكانت مبينة من الحجر·
أما أمي فقد أعدت لي دواة حبر من صخام الدخان العالق في أسفل أواني الطبخ عندنا· كانت تمسحه بخرقة مبللة وتعصره في قنينة زجاج، حتى إذا امتلأت حتى منتصفها وضعت الخرقة في قاعها· وقد برى لي أبي قلما من القصيب· وقال لي: الخطيب سوف يعلمك الكتابة بها ·
سلمني أبي للشيخ أحمد الزقط· وعاد أدراجه· لم أبك كما كان يفعل الأولاد الآخرون· لم أفعل شيئا ذلك النهار· ولكنني عندما عدت للبيت كانت الدنيا قد تغيرت كثيرا· لم يكن أبي في البيت، وكان العسكر قد ملئوا المضافة·
حدث ذلك النهار حدثان كبيران في القرية: فقد خطفت رحيلة· خطفها عمير؛ وسرقت فرسنا الشقراء وقالوا أنهم رأوا شخصا غريبا يركبها ويهرب بها·
كانت الشقرا فرسا عربية أصيلة، تتميز بلونها الذهبي الأخاذ، محجلة عند الكعبين في قوائمها الأربع بحلقات بيضاء ناصعة البياض، كما أنها تحمل معينا من نفس اللون في جبينها· وهي فرس سبوق مشهود لها·
وقد أحبها الجميع· عرفت الشقرا ذلك، وتصرفت بناء على تلك المعرفة· كانت شريفة ابنة عمي إبراهيم تحبها وتلح دائما في ركوبها· وتبكي إذا لم يستجب لها أحد· تأكدت أن الفرس غضبت كل مرة بكت فيها شريفة· فقد رأيتها تحدق النظر باتجاه مصدر البكاء عندما يبدأ، فتهز رأسها بعصبية كما لو أنها تبعد الذباب عن عينيها، وتشخر، ولا تعود لمتابعة أكلها إلا بعد أن تهدأ الأمور· لذلك قررت حل المشكلة بطريقتها الخاصة·
فإذا ما خلت الدار من سكانها تبدأ الشقرا مشروعها لإرضاء شريفة· فكانت تدفعها برأسها بينما شريفة تضحك وكأنها تعلم ما تريد الفرس منها، فتسيران سوية إلى نقطة بعينها على البيدر، حيث السنسلة الحجرية التي تفصل بيدرنا عن بيدر دار فواز
في هذه النقطة بالذات لا ترتفع السلسلة عن بيدرنا إلا بحجر أو حجرين يشكلان قمة السلسة، ويمكن لأي طفل أن يتسلق عليها· أما من الجهة الأخرى فالسلسلة تشبه جدارا استناديا حيث تنخفض الأرض، فإذا وقفت الشقرا حذاء الجدار، يكون ظهرها بنفس المستوى الذي تقف عليه شريفة· وبعد أن تتأكد الفرس أن صاحبتها تقف حيث يجب أن تقف تسرع هي لتدور حول البيدر وتقف ملاصقة للجدار على الجهة المقابلة، وتهدأ هناك تاركة لشريفة أن تتسلق الحاجز المنخفض وتنتقل إلى ظهر صاحبتها بأمان· ثم تنطلقان: شريفة تصرخ من الفرح وتحيطها بذراعيها الصغيرين قريبا من ناصيتها، والشقرا تتهادى بخيلاء· لقد رأى كثير من الناس هذا المنظر وقال بعضهم أنهم رأوا الشقرا تستجيب للكزات أقدام شريفة فتركض دون أن يهتز ظهرها أو تعرض راكبتها للخطر·
فإذا فرغتا من رحلتهما، أو تنبه عمي لما يحدث فنادى بأعلى صوته على الفرس لتعود، تعودان إلى حيث يقف عمي أو أي رجل أو امرأة فتقف بجانبها تشخر وتهز رأسها فرحا حتى تنزل شريفه· وإذا لم يكن هناك من يساعد، فإنهما تعودان إلى حيث انطلقتا فتنتقل شريفة إلى السلسلة ثم تنتظر بعد زن تنزل منها إلى البيدر،حتى تصلها الشقراء فتعودان كما جاءتا·
عرف الناس قصة الشقراء وشريفة وتناقلوها، وعرفوا خصائص هذه الفرس النبيلة، فللشقرا قصص كثيرة مشابهة جعلتها واحدة من الخيول التي تشترك مع البشر في كثير من صفاتهم الطيبة: الذكاء والوفاء والجمال والرشاقة· وكثيرا ما فكرت لاحقا أن العلاقة بين الشقرا والناس علاقة أنبل بكثير مما بين الناس أنفسهم، فهي علاقة حب خالص من كل غرض سوى متعة الصداقة· لا أذكر أن الشقرا ماتت، ولكنها اختفت ذات يوم ولم يعد أحد يذكرها أو يذكِّر بها·
سارع الناس، كما كان العرف في ذلك الزمان، إلى الدخول في علاقات نسب خيل مع أعمامي· أي أنهم كانوا يشترون مهرها أو مهرتها قبل أن تولد· فإن كانت ذكرا، يكون الشاري قد دفع الثمن المتفق عليه وتنتهي القصة؛ وإن كانت مهرة فإن الثمن يكون للمهرة، ولكل أولادها ما عدا الأول الذي يعود لأعمامي يتصرفون به· لقد قيل أن لنا نسبا في الخيل وصل حتى مدينة الخليل في فلسطين، كما بيعت أمهار لها في عدد من قرى شمال الأردن·
لم يكن اختفاء الشقراء ذلك النهار حدثا عاديا· بعضهم قال أنها اختفت لأمر يخصها، وأنها ستعود إلى أهلها؛ وبعضهم اعتقد أنها سرقت، وأنها لن تعود·
قرر أعمامي أن الفرس سرقت، وأنهم سيبحثون عنها ويعيدونها· ضربت القرعة· وقع نصيب أبي في أن يتجه للغرب نحو فلسطين· قال لأمي كما سمعت لاحقا، سوف أصل للبحر حتى أجدها إن كان سارقها قد ذهب في ذلك الاتجاه·
غادر قبل أن أعود للبيت· سمعت بما جرى فاستغربت· إذا كانت الشقراء قد ضاعت، فإنها ستعود وحدها· وقد فعلت ذلك من قبل· هي تعرف الطريق إلى بيتها· أما إذا سرقها حرامي، فكيف يمكن لأبي أن يبحث عنها في كل البلاد إلى الغرب؟ هناك آلاف الطرق وليس بالإمكان أن يكون أبي فيها كلها في الوقت نفسه· من المؤكد أنه سيضيع أو يتعب ولن يعود قريبا· أو أنه سيعود بدونها· كيف لخمسة رجال يمكن أن يجلسوا في بيت واحد، أن يبحثوا عن فرس في هذا العالم؟
لم يجبني أحد على تساؤلاتي· لم يكن لأحد الوقت ليفعل ذلك· الكل مشغول بالحدث الثاني· عمي إبراهيم يعتني بالضيوف من الفرسان الذين ملأوا المضافة، بينما انصرفت أمي مع نساء أعمامي لإعداد الطعام·
ظن الناس أول الأمر أن فرسان الشرطة جاءوا بكبسة وهم غالبا ما يطلبون، إذا جاءوا لهذه الغاية، نوع الأكل الذي يريدون إذا رأوا من معازيبهم ترددا أو ميلا للبخل· ولكنهم اليوم جاءوا لأمر آخر لا علاقة لنا به· فقد خطفت رحيلة في منتصف الليلة الفائتة، فأسرع طليبها سلامه يخبر الحكومة، فجاء هؤلاء إلى مضافتنا يجرون وراءهم والد الخاطف·

الصفحات