أنت هنا

قراءة كتاب حياتي مع بيكاسو

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
حياتي مع بيكاسو

حياتي مع بيكاسو

كانت الطبعة الأولى من ترجمتي لكتاب حياتي مع بيكاسو تأليف فرنسواز جيلو، وكارلتون ليك، قد صدرت في بغداد عام 3 9 9 1 عن دار المأمون للترجمة والنشر، دون إشرافي ومراجعتي، لأنني كنت مقيمة خارج العراق.

تقييمك:
4
Average: 4 (1 vote)
الصفحة رقم: 7

لأنني كنت الآن أعيش في بيت جدتي، فقد كانت لدي مشاكل مالية، فوالدي كان دائماً مصدر تمويلي، وكانت الملابسالوحيدة التي أملكها هي تلك التي كنت أرتديها يوم هربت إلى بيت جدتي، وكان من المستحيل، طبعاً، أن أُخرج أي شيءمن بيت أبي.كان بيته يقع خارج مدخل غابة بولونيا مباشرة، وكنت دائماً أقوم بجولات كثيرة على الحصان في الغابة. فذهبت لأرىأستاذي الذي كان يدربني على ركوب الخيل، وأخبرته بأني بحاجة إلى عمل، فعينني مدربة أمنح دروساً للمبتدئين، وكانعليّ في بعض الأيام أن أذهب إلى (ميزون لافيت Maison Laffitt)، وهو مركز ركوب الخيل والسباق، يقع علىمسافة اثني عشر ميلاً خارج باريس، وذلك ما جعلني مشغولة جداً.لم تسنح لي فرصة لزيارة بيكاسو ثانية قبل حلول شهر تشرين الثاني، وكانت السهولة التي بوسعي أن أتواصل بها معه،من الأمور التي تجلت أمامي بوضوح. فعلى مدى سنوات، لم أستطع أن أتواصل مع والدي، وغالبًا ما كانت علاقتيبالفتى الوحيد الذي كان في سني، والذي اعتقدت بأنني أحببته، صعبة ومعقدة، وسلبية تقريبًا، والآن، أصبحت فجأة أتفاهمبيسر مع رجل يفوق عمره ثلاثة أضعاف عمري، وكان من الممكن التحاور معه بأي موضوع، فكأنني أمام معجزة.لدى رؤيته بعد غياب أربعة شهور أو خمسة، وبعد أن مررت بمصفاة تجاربي الصيفية، كان لدي انطباع بأنني كنت عائدة
إلى صديق له طبيعة قريبة جدًا من طبيعتي. غالباً ما شعرت، خلال فترة مراهقتي، بأنني مثل رحالة أجتاز الصحراءوحيدة، وعلى الرغم من غروري الثقافي، فقد كنت أهاب المجتمع وغالباً ما كنت أبقى صامتة حتى بين الأصدقاء. والآنكنت في غاية الانبساط مع رجل لم أكد أعرفه، لم يكن بيننا ما يجمعنا نظريًا، غير أنّنا في واقع الأمر كنا نشترك في أشياءكثيرة. وحين قلت له ذات صباح، في ومضة دفء مغايرة تماماً لـ (التحفظ الإنكليزي) الذي كنت قد أظهرته من قبل، كم
أنّني كنت أشعر بالراحة معه، أمسك بيدي وانفجر قائلا بانفعال: وذلك هو شعوري تمامًا، حين كنت شاباً، حتى قبل أن أبلغسنك، لم أجد قط أي شخص يشبهني، فشعرت كما لو كنت أعيش في عزلة تامة، ولم أبح بمكنون قلبي لأي إنسان ، فلجأتإلى الرسم لجوءًا كاملا. ومع مضي الأيام، كنت ألتقي بالتدريج أُناساً كان بوسعي أن أبادلهم بعض المشاعر هنا وهناك،وكان لدي مثل هذا الإحساس معك أيضًا - الإحساس بأننا نتحدث بلغة واحدة، ومن اللحظة الأُولى عرفت أن بإمكاننا أننتواصل معاً.فقلت له إن ذلك يمنحني شعوراً مريحًا، وأخبرته إنني خامرني قبل تلك العطلة بعض الشعور بالذنب بسبب ترددي عليهبكثرة، كما أخبرته إني لم أكن أريد أن أزعجه الآن بكثرة زياراتي له.قال: دعينا نتفاهم حول هذا الأمر، دائمًا يوجد لدي من يزعجني، سواء أتيت أم لم تأت، حين كنت شاباً لم يكن يعرفني أحدولم يزعجني أحد فكنت أعمل طوال النهار. لو جئت حينذاك، فربما كنت ستزعجينني حتى من غير أن تتفوهي بكلمة
واحدة، أما الآن فهناك الكثيرون غيرك الذين يتسببون في إزعاجي. وبصراحة - هنا انفرج وجهه عن ابتسامة صغيرة بعدأن كان شديد الجدية - هناك من يبعث فيّ الملل أكثر منك.وبدأت أمضي صباح الأيام التي لم يكن علي أن أعطي فيها دروسًا- ليومين أو ربّما ثلاثة في الأسبوع - في شارع (دوغراند أوغسطين). كان معظم من رأيت هناك، أشخاص يترددون كل صباح تقريباً، فإذا شعر بيكاسو برغبة في إطلاعهمعلى بعض الصور، كان بإمكانهم أن يشاهــدوا أعماله، وبخــلاف ذلـــك كانــوا يكتفـون بالجلوس في المكان، وقلمايتحدثــون، ثــم ينصرفــون في موعـد الغداء. لم يكونوا مجرد أشخاص متطفلين، وإنما كانـوا على علاقــة بحيـاة بيكاسوعلى نحوما: كان بينهم مثلا (كريستيان زيرفوس Chriustian Zervos)، ناشر مجلة (دفاتر الفن)، والذي كان يجمعمعلومات لطبع دليله عن أعمال بيكاسو، وغالباً ما كان يصطحب معه مصوره الفوتغرافي ليلتقط صوراً لآخر لوحاتبيكاسو وتخطيطاته.
ثم كان هناك البارون (جان موليت Jean Mollet)، الذي كان أمين سر الشاعر (غيوم أبولونير GuillaumeApollinaire)، يوم كان (أبولونير) الناطق الرسمي لحركة التكعيبيين، وقد مضى على وفاته خمسة وعشرين عاماً، غيرأن البارون كان ما يزال دعامة مستمرة تقريباً من دعائم مشغل بيكاسو.
ومـــن الأشخـــاص الذيـــن كانـــوا يترددون كثيــراً في ذلك الوقت، (أندريه دوبوا André Dubois) الذي أصبح فيمابعد مدير شرطة باريس، ثم عمل في مجلة (ماتش Match)، وكان يعمل آنذاك في وزارة الداخلية، وبما أن الألمان كانوايبحثون عن طرق لمضايقة بيكاسو، بل قد ضايقوه أكثر مما ينبغي، فقد كان (أندريه دوبوا) يأتي كل يوم تقريباً ليتأكد منأن الأمور تسير على ما يرام. وكان (جان پول سارتر Jean- Paul Sartre) يتردد كثيـراً، وكذلــك (سيمــون دو
بوفـــوار Simon du Beauvoir) والشاعـــر (بيير ريفـــردي Pierre Reverdi). كان سارتر وسيمون دوبوفواريتحدثان فيما بينهما معظم الوقت، وحين يتحدث سارتر مع بيكاسو، فكان ذلك يدور عادة في زاوية بعيدة، وكان يبدو شديدالغموض والسرية، فشعرت بأنه كان ولا بدّ يتكلم عن (المقاومة)، وعن بعض منشوراتها السرية. وكلما تحدث سارتر، لميكن حديثه عامة عن الرسم، أو عن رسوم بيكاسو خاصة، ووجدت حديثه، في أغلب الأحيان، تعليمياً إلى حد كبير، لذلكاعتدت على الحديث مع شخصيات أخرى مثل الشاعر (جاك بريفير). لم يكن معظم الأشخاص يمزحون كثيراً، ولكن(بريفير) كان على الأغلب يجد موضوعًا مسليًا. كان لبيكاسو منحوتة برونزية جديدة، فأراد (بريفير) ذات يوم أن يسلينفسه والآخرين، فوضع اليد البرونزية في كمه وراح يصافح بها الآخرين، ثم يمضي بعد أن يترك اليد البرونزية فيأيديهم.وفي صباح أحد أيام ذلك الشتاء، ذهبت إلى شارع (دو غراند أوغسطين) حاملة معي بضع لوحات كنت قد أنجزتها حديثاً،وأردت أن أعرضها على بيكاسو، ولاحظت أن عددًا من الأشخاص الذين اعتدت رؤيتهم في مشغل الرسم في الطابقالأعلى، موجودون في القاعة الطويلة في الطابق الأسفل، حيث كان (سابارتيه) يعمل. دا (سابارتيه) مرتاباً، وأشار لي أنأتبعه، وحين أصبحنا خارج القاعة همس لي: بإمكاني أن أصطحبك إلى الطابق العلوي كما قال لي، ولكنه لن يرى اليومأحدًا آخر، إنك ذاهبة إلى رجل سيصدمك لقاءه.وحين وصلنا إلى مشغل الرسم، رأيت بيكاسو يتحدث إلى رجل نحيف أسمر وحاد، لا بد أن أعترف أنه صدمني، فقد كانأندريه مالرو. كان مالرو في ذلك الوقت مثالاً يحتذي به جيلنا، أكثر من أي شخص آخر، وكنا جميعاً قد التهمنا كتبه -الفاتحون، وقدر الإنسان، والأمل - وكنا نمتلىء حماسةً لا بقراءة كتبه فقط، وإنما بالأعمال البطولية لمالرو ذاته، فيالصين وفي الهند الصينية وفي أسبانيا، وبوصفه الآن أحد قادة حركة (كوريز Correze) السرية للمقاومة الفرنسية.قدمني بيكاسو لمارلو، وطلب مني أن أعرض عليهما لوحاتي، ففعلت وأنا متهيبة، ثم أشرت إلى شيء في إحدى اللوحاتعلى أنه مستوحى من ذكرى رحلة قمت بها إلى (لي بو Lee Beaux) في الصيف الماضي، وذلك ما جعل بيكاسو
يتذكر أنه ومالرو التقيا هناك في يوم من أيام عيد الميلاد قبل حوالي خمس سنوات، وقال: لذلك المكان سحر عالم آخر،تشعر به وأنت واقف تتطلع إلى الأسفل إلى (وادي الجحيم) الذي يذكرني بدانتي Dante.أجاب مالرو لا بد له أن يذكرك، فعندما نُفي دانتي من فلورنسا، ذهب إلى هناك أثناء تجواله في فرنسا، وذكر ذلك المشهدفي (الجحيم L'Inferno).بعد أن ذهب مالرو، قال بيكاسو: آمل أن تقدري الهدية التي قدمتها لك الآن. سألته أية هدية؟ قال سمحت لك بالتحدث إلى
مالرو، وعلى كل حال لا ينبغي لأحد أن يراه هنا، فالأمر بالغ الخطورة، وقد تسلل إلينا الآن من حركة المقاومة السرية.أخبرته إني لم أكن أدري عما إذا كنت ممتنة لذلك أو لا، لقد كنت سعيدة بالأسطورة الرومانسية، غير أني بلقائه هنا للمرةالأولى، أصبت بالخيبة من رؤية وجهه الملتوي بحركاته العصبية.في الطرف الآخر من هذه التركيبة السياسية وغير السياسية، كان هناك (جان كوكتو)، الذي جاء في صباح يوم من أيامذلك الشتاء مع صديقه الممثل (جان ماريه)، أو (جانوت Jeannot) كما كان يسميه - ليخبر بيكاسو أن (ماريه) سيقومبدور (بيروس) في مسرحية (أندروماك) لـ (راسين)، وقال كوكتو مؤكداً: سيحقق صغيرنا (جانوت) نجاحاً ضخماً، وكانجانوت قد قام أيضًا بتصميم المشاهد والملابس، ومضى كوكتو يصف ذلك بإسهاب، ويتحدث بحماسة عن التضادّ المحتدم بين الملابس البيض، وأعمدة للقصر السود، ويقول: لو كان بإمكان بيكاسو أن يتصور إلى أي حد بدا (جانوت) ملكيالمظهر بعباءته الأرجوانية الساحرة التي يبلغ طولها أكثر من خمس عشرة قدماً، وهو منكبّ على رأسه أسفل السلم، فيأحد المشاهد المؤثرة جداً، ولكن بقيت مشكلة واحدة: فقد كان (جانوت) بحاجة إلى صولجان، فهل بإمكان (بابلو) أن يصممله واحداً؟
فكر (بيكاسو) للحظة، ثم قال: هل تعرف سوق الشارع الصغير، في شارع (دو بوسي)؟ بدت الدهشة على (كوكتو)و(ماريه)، ولكنهما قالا إنهما يعرفانه.

الصفحات