أنت هنا

قراءة كتاب لقاء التاريخ بالعصر

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
لقاء التاريخ بالعصر

لقاء التاريخ بالعصر

كتاب "لقاء التاريخ بالعصر: دعوة لنبذ الخلدونية بأبعادها المعاصرة في وعي الشعب تأسيساً لثقافة العقل"، الدراسات الأكاديمية العربية بشأن ابن خلدون ليست بالقليلة··· وعلى الرغم من ذلك، فإن هذا المفكر في فلسفة التاريخ والاجتماع في الحضارة العربية الإسلامية لم يدخ

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 5

إن النور الوحيد في آخر هذا النفق، وبما يتخطى زمن ابن خلدون، يمكن أن يتمثل في حركة إصلاح جريء وجذري، وتجديد شامل للحياة السياسية والاجتماعية والثقافية· ومن السهل قول ذلك· ولكن من الصعب للغاية فعله وتنفيذه وإنجازه· ولكن لابد مما ليس منه بد، إن امتلكت هذه الأنظمة السياسية العربية إرادة البقاء··· البقاء المتماشي مع رياح التغيير وحركة التاريخ، وليس البقاء الاستبدادي الأرعن، الذي يعطي للقوى الطامعة فرصة الاحتلال بحجة التحرير ودعاوى الإنقاذ، بينما الحقيقة هي التمزق والفتنة والوقوع في المجهول·
وابن خلدون، في تشخيصه المذهل لواقع نهاية مثل هذه الأنظمة في ماضينا، يتحدث بإلحاح عن خطر (الترف المُْؤذِن بخراب العمران)، إنه الحالة الاستهلاكية المتسيبة والمنفلتة بلغة عصرنا التي تعيشها نخب هذه الأنظمة في لامبالاة قاتلة بالأخطار المحدقة· لو كان ابن خلدون حيًا ورأى التهالك المفجع اليوم على أرباح الأسهم، خاصة في دول النفط، بما تعكسه من ذهنية كسولة تريد الربح بلا إنتاج، لصرخ قائلاً: انظروا··· هذا هو الترف المؤذن بخراب العمران··· عمرانكم الراهن اليوم !
وطالما حذر القرآن الكريم - وابن خلدون من تلامذته الحضاريين - من هذا الترف المؤدي للهلاك، في آيات عديدة، لقوم يدركون ويحسون ويشعرون !
ويتلازم لدى ابن خلدون مع هذا (الترف) في تخريب العمران (ظلم الرعية) حسب تعبيره، الذي يضطرهم إلى الانقلاب على سلاطينهم ووقوفهم إلى جانب الأعداء، داعيًا سلاطين عصره إلى اكتساب قلوب (الرعية) بالمودة والإحسان والعفو، تعزيزًا لدولهم ذاتها، وفي لفتة أخرى ينبه إلى (أن التجارة من السلطان مضرة بالرعايا ومفسدة للجباية) (أي النظام الضريبي في زمنه)، وهو ما يلخص واقع الفساد الحكومي إلى يومنا بمختلف أبعاده المدمرة· وما يفسر لماذا اشترط قادة العرب الشرفاء على عوائلهم : إما التجارة وإما الإمارة· ولا خلط بينهما !
رابعًا : أدرك ابن خلدون أهمية مراعاة قوانين التاريخ والاجتماع في حركات التغيير، التي لا بد في نظره أن تأخذ بأسباب القوة المجتمعية في المواجهة، وألا تندفع إلى العمل الانتحاري المهلك للنفس دون رؤية ودون عقل سياسي· يقول : ( ومن هذا الباب أحوال الثوار القائمين بتغيير المنكر من العامة والفقهاء، فإن كثيرًا من المنتحلين للعبادة وسلوك طرق الدين يذهبون إلى القيام على أهل الجور من الأمراء، داعين إلى تغيير المنكر والنهي عنه والأمر بالمعروف رجاء الثواب عليه من الله، فيكثر أتباعهم والمتمثلون بهم من الغوغاء والدهماء، ويعرضون أنفسهم في ذلك للمهالك، وأكثرهم يهلكون في هذا السبيل، مأزورين غير مأجورين؛ لأن الله سبحانه لم يكتب ذلك عليهم··· وأحوال الملوك والدول راسخة قوية لا يزحزحها ويهدم بناءها إلا المطالبة القوية التي من ورائها عصبية القبائل والعشائر··· وهكذا كان حال الأنبياء في دعوتهم إلى الله وهم المؤيدون من الله بالكون كله لو شاء، لكنه إنما أجرى الأمور على مستقر العادة···) هذا النص الخطير أورده ابن خلدون في (المقدمة) قبل أكثر من ستة قرون، لكنه كمن يصف الحالات الانتحارية في الراهن العربي والإسلامي بدقة متناهية· ويبقى ابن خلدون ملتزمًا بمنهجه الواقعي في التحليل؛ فيقرر أن (أهل الحل والعقد) في الحقيقة هم قادة القوى المجتمعية المؤثرة وليسوا هم الفقهاء الذين يؤخذ رأيهم على سبيل (التبرك) فحسب!
خامسًا : أدرك ابن خلدون منذ زمنه هشاشة المجتمع الحضري العربي سياسيًا، حيث أشار إلى أن (أهل الحاضرة عيال على غيرهم في المدافعة الممانعة)، ومازالت الإشكالية تواجه مجتمعات المدن العربية، أو المجتمعات المدنية، أمام قوى البوادي والأرياف التي تحتكر إنتاج السلطة، ممثلة بذلك أخطر العوائق أمام التطور الديمقراطي الحقيقي·
سادسًا : يبدو ابن خلدون معاديًا في الظاهر للفلسفة عندما يكتب في : (إبطال الفلسفة وفساد منتحليها) - لكنه في واقع الأمر، وفي ضوء فلسفته الاجتماعية والتاريخية، يعتبر في مقدمة أولئك المفكرين الرواد الذين أنزلوا الفلسفة من السماء إلى الأرض من أجل فهم العالم· فقد أبطل فلسفة الميتافيزيقيا لتحل محلها فلسفة الفيزيقيا المجتمعية، التي يمكن لعقل الإنسان أن يتعامل معها· والواقع أن نهجه العقلاني الواقعي هذا يبقى ساريًا في كل سطور المقدمة، محاربًا الأوهام والطلاسم والأساطير· ولم يكن الدكتور محمود إسماعيل موفقًا في اتهامه باقتباس فلسفته من (إخوان الصفا) فهؤلاء، على أهميتهم، مزجوا الفلسفة بالخرافة، والواقع بالوهم، والتحليل بالتنجيم، ولم يقدموا مدرسة عقلية صلبة كالتي يمثلها ابن خلدون في مقدمته·
وتبقى اليوم (مقدمة) ابن خلدون ليست مجرد مقدمة في التاريخ، وإنما (مقدمة) لا غنى عنها لتأسيس وعي عربي جديد قادر على التعامل مع العالم بموضوعية فاعلة·

الصفحات