كتاب " اكتشاف جزيرة العرب خمسة قُرون من المغامرة والعِلم " ، تأليف حمد الجاسر ترجمه إلى العربية قدري قلعجي ، والذي صدر عن مكتبة مدبولي عام 2006 ، ومما
أنت هنا
قراءة كتاب اكتشاف جزيرة العرب - خمسة قرون من المغامرة والعلم
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
دخل الصليبيون من بلاد بيزنطة ، إلى بلاد فلسطين وحدود الجزء الشمالى من شبه الجزيرة العربية ، فهل أتاح لهم ذلك أن يتصلوا اتصالاً مباشرًا بشبه الجزيرة المجهول ، الغامض ؟
لقد ساد السلام سنة 1881 ما بين مملكة القدس التى كان يحكمها بودوان دى انجو الرابع ، وجيرانها المسلمين . وكان هذا الملك الشاب الذى قرض البرص أطرافه ، شخصية مسيحية أسطورية ، تتغلب لديها القيم الروحية على كل شىء آخر .
على أن صاحب إحدى إقطاعاته المعروف باسم رينولد دى شاتيون ، ذا الدم الفوار ، سيد الكرك ، الذى مثله رينيه غروسه ، فارسًا قاطع طرق ، تنم ملامحه عن التوحش ، وممثلاً للطبقة الإقطاعية الدموية السلابة فى الغرب ، تحول فى الشرق إلى بدوى فرنسى لا يفهم الحرب إلا فى سبيل الغزو ... إن رينولد هذا لم يكن يشبه مولاه ، وقد دفعته روح النهم والطمع المستبدة به ، التى أثارها ما كان يسمعه عن الكنوز المكدسة فى معبد المدينة ، إلى القيام بتجاوز الحدود ، ودخول شبه الجزيرة العربية ، غير مكترث بالمعاهدات التى كان مـــولاه ملك القدس قد وقــع عليها .
تقدم رينولد ورجاله فى صيف عام 1881 فى القسم الصحراوى من شبه الجزيرة المجاور لتخوم إقطاعته ، ولم يتمكن من بلوغ المدينة ، ولكنه فاجأ قافلة آمنة متجهة من دمشق إلى مكة ، وسلبها كل ما كانت تحمله .
أسف بلاط القدس لنبأ هذه الغزوة كل الأسف ، وتملكته من جرائها الحيرة ، واشمأز بودوان الرابع من هذا العدوان كل الاشمئزاز ، ولكنه عجز عن حمل صاحب إقطاعته على إعادة الأسلاب إلى السلطان صلاح الدين ، واضطر مرغمًا إلى التسليم بالحروب التى أعلنها دى شاتيون على العرب بتلك الطريقة .
واغتنم دى شاتيون فرصة تساهل مولاه ، فاحتل ميناء حربيًا واقعًا على خليج العقبة ، ونقل إليه على ظهور الجمال ، سفنًا فلسطينية مفككة ، أعاد تركيبها فيه . وما كادت هذه السفن الخمس الكبيرة تصبح جاهزة ، حتى وجهها مع خمس سفن هجومية صغيرة ، لمحاصرة جزيرة «غراى» لإشغال الجيوش الإسلامية ، وأرسل العدد الأكبر من قطع أسطوله يجوب شواطئ البحر الأحمر ، ويعكر صفوها ، ويلقى فيها الذعر من سنة 1182 إلى سنة 1183 .
نزلت قوات رينولد دى شاتيون على أحد شواطئ الحجاز ، واستعدت للزحف على المدينة .
ولكن صلاح الدين ، من جهته ، أمر بتفكيك بعض السفن ونقلها من مصر إلى البحر الأحمر ، لإنجاد العرب المروعين . واستعد أمير أسطوله للقيام بهجوم معاكس على سفن رينولد ، فأسر السفن التى كانت تحاصر جزيرة « غراى » ، ثم أخذ يطارد جنوده ، وأدرك السفن التى كان بحارتها يحاولون الالتحاق بالجنود المتوجهين لمهاجمة المدينة المقدسة ، ودمرها . وعند المضايق الصحراوية الواقعة على بعد مسيرة خمسة أيام من البحر الأحمر ، ومسيرة يوم واحد إلى المدينة، هوجم الجنود الثلاثمائة من الفرنجة الذين كان قد انضم إليهم عدد من « الفراريين » المسلمين ، وتم القضاء على معظمهم . وأُعدم فى مكة والمدينة عدد من المائة والسبعين جنديًا الذين نجوا من الموت فى المعركة ، واقتيد الباقون أسرى إلى مصر ، ولم ينج بالفرار أحد منهم . ويذكر ابن جبير أنه شاهد جنود الفرنجة لدى وصولهم « مربوطين على ظهور الجمال ، وقد أديرت وجوههم نحو ذيولها إمعانًا فى إذلالهم ، بين قرع الطبول والصنوج ، وهتاف الشعب . وقد حزت أعناقهم فيما بعد » .
وهكذا ظلت شبه الجزيرة العربية مصونة الحمى . ولم تلبث فلسطين أن سقطت بكاملها فى أيدى المسلمين .
وجاء فتح الأتراك العثمانيين فغمرت جيوشهم البلقان ، وبيزنطة ، وشرقى البحر الأبيض المتوسط ، وبسط الخلفاء الأتراك سلطانهم على معظم البلدان الإسلامية ، ولكن شبه الجزيرة العربية ، ظلت ممتنعة على الفتح التركى ، بفضل صحرائها التى هلكت فيها عطشًا الجيوش التى وجهها السلطان سليمان سنة 1550 .
وبما أن الأتراك كانوا قد اعتنقوا الإسلام ، فقد ظلت إمبراطوريتهم ، بالنسبة إلى الأوروبيين عالمًا مغلقًا معاديًا ، شأن الإمبراطورية العربية ، ووقفت أوروبا والإسلام وجهًا لوجه كعالمين كل منهما غريب عن الآخر ، يتعذر تداخلهما ماديًا وروحيًا .
وهكذا أسهمت القطيعة ما بين ساحل البحر الأبيض المتوسط الناجمة عن غزوات البرابرة ، وحرب الإسلام المقدسة الهجومية ، ونسيان الحضارة الإسلامية لمهد روادها الأوَل ، ومقاومة الجزء الصحراوى من شبه الجزيرة العربية لغزوة رينولد دى شاتيون ، الغزوة المسيحية الوحيدة ، والعداوة الدينية المزمنة ، كل هذه أسهمت فى أن يسدل ما بين أوروبا الناشئة وشبه جزيرة العرب، ستار كثيف من الجهل الشديد .
لقد كان كل ما يعرفه الأوروبيون أن النبى محمدًا ولد فى شبه الجزيرة العربية ، وأن اسم المدينتين المقدستين فيها : مكة والمدينة . وكان يسود اعتقاد خاطئ بأن جثمان النبى محمد معلق فى الهواء فى معبد مكة . ولم تكن أية سفينة أوروبية تزور سواحل شبه الجزيرة العربية ، ولم يكن يدخلها أى مسيحى ، إلا إذا اعتنق الإسلام ، وتخلق بأخلاق العرب ، وساكنهم .
على أن الاهتمام بالتبشير بالإنجيل فى بلاد الحبشة المسيحية ، المقابلة لشبه الجزيرة العربية، كان قد حدا بالبابا يوحنا الثالث إلى أن يرسل إليها الراهب الدومينيكى ، غليوم آدم ، الذى يرجح أنه كان فرنسيًا ، فتمكن من مسايرة حدود شبه الجزيرة العربية .
لقد توجه هذا الراهب فعلاً إلى هرمز الواقعة فى مدخل الخليج العربى ، ومنها إلى عدن حيث مكث سنتى 1313 و1314 ، ثم أبحر نحو جنوبى إفريقيا ، بعد أن قضى تسعة أشهر بين ظهرانى السكان المسيحيين فى جزيرة سقطرة . ثم عاد إلى فرنسا، وتوفى فى البلاط البابوى فى آفينيون .
يدلنا هذا على أن ثمة عددًا صغيرًا جدًا من الأوروبيين لم يكن يجهل جهلاً تامًا شئون المحيط الهندى فى القرن التاسع عشر ، وأحوال الملاحة والتجارة فيه ، والدور الاستثنائى الذى كانت تمثله عدن ، والمطامع التى كان يستثيرها هذا المرفأ الكبير . وقد برهن هذا الراهب ، فى الوقت ذاته ، على بعض الآراء الفلكية السابقة لعصره ، إذ إنه قدّر فى آن واحد أن الأرض كروية ، وأن فى الإمكان الوصول إلى الجانب الجنوبى من إفريقيا الذى كان موقعه مجهولاً .
ولكن هذه الحالة النادرة تؤلف الشذوذ المثبت للقاعدة ، والمبين للجهل المطبق الذى كان يتخبط فيه الأوروبيون فيما يختص بشبه الجزيرة العربية .
لقد كان شبه الجزيرة العربية ، البالغة مساحته خمسة أضعاف مساحة فرنسا ، المتعذر الوصول إليه ؛ لأن شواطئه مغلقة على البحر الأبيض المتوسط بمجموعة من البلدان الإسلامية المعادية ، المعروف لدى القدماء رغم اعتبارهم إياه غريبًا - كان شبه الجزيرة هذا ، بالنسبة إلى الأوروبيين الجدد ، عالمًا مفقودًا ، عالمًا يستثير التشوق أكثر من قارة مجهولة ، ليس لأنه يخفى بقاعًا يجب استكشافها ولا علم لأوروبا بشكلها وحقائقها فحسب ، بل لأنه كان يشكل إطارًا لحضارتين : حضارة إسلامية بمدنها المقدسة الغامضة ، وحياتها الاجتماعية ، وعاداتها ، وسكانها، وحضارة عريقة فى القدم لم يكن يعرف الناس - إلا تخمينًا - أنها كانت من أغنى الحضارات فى العالم القديم . فكانت الرغبة فى المعرفة هى التى أهابت بأوروبا إلى اكتشافها من جديد .