أنت هنا

قراءة كتاب اكتشاف جزيرة العرب - خمسة قرون من المغامرة والعلم

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
اكتشاف جزيرة العرب - خمسة قرون من المغامرة والعلم

اكتشاف جزيرة العرب - خمسة قرون من المغامرة والعلم

كتاب " اكتشاف جزيرة العرب خمسة قُرون من المغامرة والعِلم " ، تأليف حمد الجاسر ترجمه إلى العربية  قدري قلعجي ، والذي صدر عن مكتبة مدبولي عام 2006 ، ومما

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
دار النشر: مكتبة مدبولي
الصفحة رقم: 7

لودفيكـو دى فارتيما

هل سبق أحد لودفيكو دى فارتيما فى زيارة بلاد العرب ؟ يعتقد أحد المعاصرين أن كابوت، الرحالة الكبير ، قام بزيارة مكة بين سنتى 1476 و1490 ، ولكن الشكوك تحوم حول صحة ذلك . على أن هناك أمرًا لا يتسرب إليه الشك وهو أن الملك جان عاهل البرتغال قد أرسل إلى شبه الجزيرة العربية سنة 1487 بدرو دى كوفيلها الذى كان يتكلم العربية ، للتحقق من إمكانية الذهاب إلى الهند مرورًا بالبحر الأحمر . وقد بلغ أحد موانئها عن طريق برية بالانضمام إلى قافلة من المغاربة متوجهة إليها من القاهرة ، وأبحر منها على ظهر مركب إلى عدن ، ومنها إلى بلاد الهند . وما كاد يعود إلى القاهرة حتى تلقى أمرًا من مليكه بالذهاب إلى بلاد الحبشة ، وقد قام بذلك قيامًا حسنًا إلى درجة أنه أقام فيها مدة ثلاثين سنة كاملة . وقد روى كوفيلها لكاهن سفير برتغالى مثَّل بلاده فى الحبشة من سنة 1520 إلى سنة 1526 قصة أسفاره المليئة بالحوادث مضمنًا إياها حديثًا عن سفره بها إلى مكة والمدينة . فهل قام ، حقيقة ، بتلك السفرة ؟ إذا كانت هذه السفرة قد تمت بالفعل فإنها على كل حال لم تزد شيئًا على معلوماتنا عن شبه جزيرة العرب، لأنه لم يكتب عنها شيئًا .

وقد كتب المدعو أرنولد فون هارف ، خلافًا لذلك ، قصة رحلاته التى ادعى القيام بها إلى كولونيا ، فالبندقية ، فالإسكندرية ، فالقاهرة ، فجبل سيناء ، وزعم أنه اجتاز من هنالك شبه جزيرة العرب إلى عدن ، وأبحر منها إلى سوقطرة ، فسيلان ، وزار بلاد الهند ومدغشقر ، وقطع جبال القمر ، واكتشف منابع نهر النيل الذى تتبَّعه حتى القاهرة ، وعاد منها إلى أوروبا مارًا بفلسطين وسوريا وتركيا .

ولكن مثلما تتيح لنا الفرصة اليوم أن نرى كيف يقوم الصحفيون المعاصرون «بتتبيل» رواياتهم ، والتأثير على القراء الذين لا دراية لهم بتحرى المعرفة ، يبدو أن عددًا من الناس صدق رواية أرنولد فون هارف آنذاك ، على أننا نستطيع اليوم أن نتبين أخطاءه ، وعدم الترابط المنطقى فى روايته ، والحماقات التى ارتكبها فيها ، حين نقارنها بالمعلومات المكتسبة . ومن الظاهر أنه لم يزر إلا القاهرة ، وسيناء ، وفلسطين وسوريا . ولكنه قد استقصى بعض المعلومات عن بلاد بعيدة، أراد أن يعرضها ، وكأنه شاهدها بأم العين ، دون أن يفهم ما رواه عنها ، ويدقق فيه .

لقد كسب منها ، فى حكم الأجيال الآتية ، لقب « أول موزع للأنباء الكاذبة » . أما لودفيكو دى فارتيما ، فإنه يبدو ، على العكس ، صادق الرواية ، موضوعيًا ، إيجابيًا ، رغم أنه لم يتمكن من تجنب إيراد بعض الأخبار التى سمع بها أثناء رحلته إلى بلاد الهند ، كأنها أخبار شهدها بأم العين .

ليس أصل لودفيكو دى فارتيما معروفًا ، فبعض من يستشهدون به يدعونه « البولونى » ، وبعض آخر يطلق عليه اسم « الرومانى » . فقد كتب أحد مؤرخى الاكتشافات فى القرن الثامن عشر أنه « كان رومانيًا من أسرة باتريزى النبيلة ، ولكنه اشتهر باسم لويس فارتيما البولونى الذى انتحله فى مذكراته » .

ومهما يكن من أمر ، فإنه ما من قصة رحلة لاقت ، طوال نصف قرن ، مثل النجاح الذى لاقته قصة رحلته . فقد تعاقبت طبعاتها وترجماتها خلال ثلاثين عامًا دونما انقطاع ، وظهر منها بعض الطبعات فى القرن السابع عشر .

ومايزال كتابه شائعًا حتى اليوم ، لا سيما أن مؤلفه قد برهن على كونه قاصًا رائعًا ، فضلاً عن كونه شاهد عيان أمينًا ، وما إلى ذلك ؛ لانصرافه إلى الأدب ، إذ كان - على العكس - بعيدًا كل البعد عن اللجوء إليه ، متحاشيًا كل التحاشى وصف جمال الأشياء ، فقد كتب عن دمشق : « من المؤكد أن المرء لا يستطيع وصف جمال المكان وجودته » ، ولكنه يمتاز عن غيره بأنه لم يحاول قط أن يُدهش ، وأن يضخم ما يراه ، وأن يعظم قدر نفسه . إنه يبحث عن المعلومات التى يفيد نقلها، فيذكر عن المدن عدد بيوتها ، ومساجدها ، والأحداث البارزة فى تاريخها ، ومنتوجاتها التى يراها فى الأسواق ، وأزياء ملابس أهلها ، وصورة صحيحة عنهم ، وعاداتهم . ويكمن سحر روايته ، فى دقة الملاحظة وصحتها ، وفيما تتسم به من واضح الوصف ومحكمه ، هذا عدا ما فى مغامراته من لذة النسق الروائى الخيالى .

لقد غادر البندقية سنة 1503 فبلغ القاهرة ، ثم بيروت ، فطرابلس ، فحلب ، وأخيرًا دمشق حيث أقام مدة لتعلم العربية . وتعرّف فى مصر وفى سوريا إلى المماليك ، أولئك الجنود الذين كانوا يقومون بمهام الشرطة لحساب السلطان التركى . وكانوا فى الحقيقة من الأسرى المجرمين ، والفالاشيين ، والصربيين ، والبلغاريين ، وغيرهم من الأوروبيين الألمان ، والقطالانيين ، والصقليين ، والإيطـاليين ، الذين كانوا يُنقــلون إلى مصــــر بعــد أن اعتنقـوا الإســــلام . وكان هـؤلاء الجنــود - بما عرف عنهم من عدم اكتراث بالواجبات الدينية ، وروح الفوضى ، والرغبة فى المشاركة - قد استثاروا احتقار المسلمين وكرههم . ويروى لنا دى فارتيما نفسه السلوك الفاسق الذى كانوا يسلكونه تجاه نساء دمشق .

ولكى يحقق دى فارتيما رغبته فى رؤية أشياء جديدة ، لم يجد أفضل من التعرف إلى ضابط من ضباط المماليك ، عهد إليه وإلى ستين من رجاله بحراسة قافلة حجاج متجهة إلى مكة مؤلفة مما يقارب خمسة آلاف شخص ، وخمسة وثلاثين ألف جمل ، ومرافقته فى الذهاب والإياب ، فقبل الضابط ، وأصبح دى فارتيما من المماليك ( بقوة المال وأشياء أخرى .. كنت أعطيه إياها ) .

لذا فقد قدّر له - وذلك إذا صح على جانب عظيم من الأهمية - أن يتعرف إلى مدينتى الإسلام المقدستين ، وقبر النبى ، وحرم الكعبة ، وأعظم شعيرة من شــعائر الدين الإســلامى وهى الحج .

فقد بلغ ، فى المرحلة الأولى من الرحلة ، إلى مزيريب فى حوران . وكانت هذه المنطقة المتاخمة للمناطق الزراعية والمتحضرة ، دائمة التعرض لغزوات بدو الصحراء . وكان الرومان قد اضطروا إلى إنشاء حدود محصنة لإيقاف هذه الغزوات . وقد أدرك دى فارتيما - الذى بقى ثلاثة أيام فى مزيريب - كل الإدراك ، طباع البدو الذين التقى بهم لأول مرة ، والأحوال السائدة فى منطقة الحدود هذه ، فكتب يقول : « عندما يحين موعد جمع المحاصيل الزراعية ، يراهم الناس فى الصباح الباكر على مقربة من المدينة التـــى يجدون فيها الحنطة والشعير مدروسين ، نظيـــفين ، رغم اعتقاد الناس فى الليل السابق أنهم على بعد مائة ميل من المدينة ، فيملأون أكياسهم ويذهبون بها ، ويحدث لهم أن ينطلقوا ليلة ونهارًا كاملين على صهوات الخيل دونما استراحة ، وعندما يصلون إلى بيوتهم يســـقونها حليب النوق البارد المرطب ، ويبدو كأن هذه الخيول تطير كالبزاة.

« واعلموا أن معظم هؤلاء الناس – ما عدا زعماءهم – يركبون الخيل بلا سروج ، ويرتدون نوعًا من القمصان . وجهاز حربهم رمح من القصب الهندى يتراوح طوله بين عشرة أشبار واثنى عشر شبرًا ، وينتهى فى طرفه بقطعة من حديد . وإذا ما أرادوا أن يقيموا سباقًا رأيتهم لاصقين بمتون خيلهم ، خفاف الحركة كأن بهم نشوة ، قصار القامات ، سمر الوجوه ، صوتهم شبيه بصوت النساء . وعددهم كبير إلى درجة يتعذر معها تقديره ، والمنازعات والحروب تظل قائمة بينهم . وهم يسكنون الجبال ، وعندما يسمعون بمرور قافلة باتجاه مكة ، يأتون للتصدى لها وسلبها ، وينقلون أمتعتهم ونساءهم وأولادهم وخيامهم على ظهور الجمال ، بيوتهم شبيهة بخيام المحاربين ، وهى مصنوعة من الصوف الخشن » .

وقد اختبر مع القافلة الممر القسرى المرهق لبلوغ إحدى الآبار ، أثناء اجتيازها منطقة قاحلة، حيث قضى ثلاثون شخصًا نحبهم عطشًا ، وحيث تُرك عدد من المحتضرين على جوانب الطريق ، وقد دفنوا فى الرمال حتى الأعناق » .

ولم يكن دى فارتيما ليعرف أن القافلة كانت تجتاز آنذاك « النفود » ، وهو جزء من الصحراء يمتد عرضًا فى شمالى شبه الجزيرة العربية . وقد اضطرت القافلة أيضًا إلى الوقوف فى وجه البدو الذين كانوا يحاولون تقاضى بعض المال عن المياه المستقاة من آبارهم ، أو غزو القافلة . وكان المماليك يُبدون شجاعة فائقة فى هذه المناسبات ، فلم تفقد القافلة سوى رجل واحد وامرأة واحدة .

الصفحات