أنت هنا

قراءة كتاب من القلب

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
من القلب

من القلب

هذه مقالات كتبتها بمداد القلب وحاولت أن أضمنها كل مشاعر الصدق والحب والجمال، والألم والمعاناة أيضا.  وآمل أن يجد القارئ فيها متعة روحية وفائدة معنوية ويحس بما جاء فيها من صدق الكلمة، وحرارة الشعور، والله ولي الصادقين.  

 (المؤلفة)

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 6
العـــالِم والعــــابد !
 
لا أرى شبها قويا كالذي أراه بين العالم والعابد. فالعالم كالعابد كلاهما يحتاج إلى الهدوء، وكلاهما يحتاج إلى التأمل، وكلاهما يحتاج إلى صفاء الروح والتدبر. وهذه جميعها لا تتم إلا بالخلوة، ولا تتحقق إلا بالاعتكاف والعزلة: العزلة عن الناس، والعزلة عن الضوضاء، والعزلة عن المقربين والأحباب، وحتى العزلة عن النفس والرغبات. إنهما يعيشان عزلة المكان بالابتعاد عن الناس، وعزلة الزمان بنسيان الأشهر والأعوام. وبهذه العزلة يشعر المحيطان بهما أنهما أصبحا غريبين عن البشر في مأكلهما وملبسهما وأفكارهما ونظرتهما للحياة، والأشياء التي تسعدهما والأشياء التي تحزنهما وكأنهما لا يمتان للناس بصلة مع أن هذا ليس بصحيح.
 
والعالم كالعابد وقت كل منهما غال وثمين، فنرى العالم يقضيه معتكفا في صومعته بين أفكاره وكتبه وأوراقه وعلمه إلى أن ينزل عليه وحي الإلهام فيفيض عليه ما يفيض من الأفكار الأصيلة والاختراعات الجديدة والمقالات الممتعة والأشعار المعبرة ما يتحف النفس ويسعد الفؤاد؛ ونرى العابد يصرفه بين صلاة ومناجاة وقعود وقيام وركوع وسجود وتأمل وابتهال إلى أن يهبط عليه وحي السماء فيفيض عليه ما يفيض من نور التجلي والإشراق، والتوحد بالذات الإلهية ورؤية الأنوار السماوية، ما يزكي الفؤاد ويلهج اللسان بالحمد والشكر والهدي والإرشاد.
 
ووقت العالم كوقت العابد لا يرتبط بجدول زمني مقيد بالساعات والأيام، بل هو مقرون مع طلوع الشمس وبزوغ القمر، وتوالي الفصول ونزول المطر، وشدو الطيور وتفتح الزهر، فترى العالم يقضي بين دفات الكتب وصرير الأقلام لياليَ وأياماً إلى أن تتبلور أفكاره وتتولد اكتشافاته فيخرج بها على الناس وكأنه يزف إليهم مولودا جديدا أو خبرا سعيدا، وترى العابد يقضي وقته متعبدا متجولا هائما في السهول والجبال مستغرقا في سبحات الخيال وهيام التأمل والإلهام إلى أن يصل إلى حالة من الصفاء النفسي والإشراق الروحي فيخرج بها على الناس وقد تحولت إلى معرفة بالله وإعجازه، وترجمت إلى حكم وآيات لتبصر الناس بطريق الحق الذي لا طريق غيره ولا معرفة قبله ولا بعده، ألا وهو طريق الله. وإذا ما اختل جدول أعمالهما بزيارة قريب مفاجئة، أو طلة جار أو صديق بغتة، فتراهما ينزعجان ويتضايقان، ويتململان ويتبرمان، ولا عجب إذا ما حنقا أو غضبا، ونأيا بنفسيهما وابتعدا ولم يتكلما، وغشاهما الصمت لأيام وأيام.
 
وهكذا نرى العالم يعيش في صومعة علمه دافنا نفسه بين كتبه وأوراقه وتبعثر أقلامه وأدواته، ونرى العابد يعيش في محراب صلاته وصومه وتسبيحه ومناجاته. إنهما يعيشان في خلوة مع الذات لا يحبان أن يخدشها قريب، ولا يؤرقها عزيز أو صديق. ولولا هذه الجوهرة الثمينة المسماة بالوحدة لما ابتكر العالم ولا اخترع، ولا تعبد العابد ولا اتصل. إنهما يلوذان بها، ويتدثران بصمتها وهدوئها، لأنهما يريان فيها ما لم يرى، ويسمعان ما لم يسمع، ويصوغان بخيالهما ويصوران بأفكارهما ما لم يصور ولا يخطر على بال السواد الأعظم من البشر.
 
فالخلوة هي التي تصفي فكريهما وتحرك قلبيهما بحب الله والمعرفة، وهي التي تدفعهما إلى التفكر والتعبد والتأمل والاستلهام والعمل والإنتاج. وإذا ما أردت أن تقطع على العالم حبل أفكاره، فدق عليه باب صومعته، وإذا ما أردت أن تزعج العابد وتشوش عليه جو خشوعه ومناجاته فاخترق عليه محراب صلاته، فالعالم تتشتت أفكاره وتتلاشى مع الضوضاء والناس، والعابد ينقطع حبل اتصاله مع الله بزيارة الآخرين له والناس.
 
من هنا، فإذا ما رأيت عالما منغمسا في علمه وكتاباته فاتركه وحده ولا تشوش عليه فكره وإلهامه، وإذا ما رأيت عابدا هائما بحب الله فاتركه مستغرقا في تأملاته ومناجاته ولا تطرق عليه باب محرابه، فنحن نحتاج إلى الأول بما تتفتق عنه نور بصيرته وإلهامه ما يضيء لنا العقل وينير ظلمات الوجدان، ونحتاج إلى الثاني بما تتفتق عنه نور روحه وصفاء وجدانه من إشعاعات ما يجلو الروح ويضيء سراديب النفوس، فهذا يفيدنا بعلمه وكتاباته واختراعاته، وذاك يفيدنا بنور روحه وهديه وإرشاده، وكلاهما يخرجان القوم من الظلمات إلى النور.
 
10/8/2004 م

الصفحات