أنت هنا

قراءة كتاب ملاحظات نحو تعريف الثقافة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
ملاحظات نحو تعريف الثقافة

ملاحظات نحو تعريف الثقافة

كتاب " ملاحظات نحو تعريف الثقافة " ، تأليف ت. س. إليوت ترجمه إلى العربية د.

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
المؤلف:
دار النشر: دار التنوير
الصفحة رقم: 1

مقدمة المترجم

عنوان هذا الكتاب يشعرنا بأنَّ إليوت يلزم جانب الحذر في عرض آرائه، أو على الأقل يتظاهر بذلك. فهو لا يعدنا بنظرية عن الثقافة توضح علاقاتها وعوامل نموها أو تدهورها، بل لا يعدنا بمجرد تعريف لها، وإنما هي ملاحظات «نحو» تعريف الثقافة. على أننا سندرك من مقدمة الكتاب أن هدف الكاتب أكبر مما يدل عليه العنوان. فهو يُصرِّح أن السؤال الذي تضعه هذه المقالة هو: «هل هناك شروطٌ ثابتةٌ إذا تخلَّفت فليس لنا أن نتوقع قيام ثقافة راقية؟» ومعنى ذلك أنَّه يقدم لنا ـ بالفعل ـ نظرية، إن لم تكشف لنا عن عوامل نمو الثقافة فهي تكشف ـ على الأقل ـ عن بعض أسباب تدهورها. ولكننا نلاحظ أنَّه يتجنب استعمال تعبير مثل «العوامل الثقافية» أو «القوى الثقافية» في صدد الحديث عن قيام ثقافة راقية، مفضلًا على هذين التعبيرين تعبيرًا آخر، وهو «الشروط الثابتة». والفرق بين هذه التعبيرات الثلاثة واضح: فـ «شروط» قيام شيء ما، لا تستتبع بالضرورة قيام هذا الشيء، وإن كان امتناعها يستتبع امتناعه، بعكس «القوى» و«العوامل» التي يتحتم أن يترتب عليها أثرٌ ما. واختيار الكاتب للكلمة الأولى في هذا السياق يدل على جملة أشياء:

يدلُّ أولًا على أن الثقافة في نظره ليست نتاجًا حتميًا لقوى أو عوامل، ويدلُّ ثانيًا على أنَّه لا يحاول أن يقدم حلولًا لمشكلات ثقافية قائمة فعلًا، بل يحاول أن يرسم صورة للثقافة الراقية كما يتصورها.

ويدلُّ ثالثًا على أنه يقصد إلى نقد أفكار معينة عن الثقافة، لا تلتئم مع هذه الصورة، أو لا تراعي تلك الشروط.

وهذه النزعات الثلاث تجعل أسلوب الكتاب مزيجًا من الجدل والطوبوية، ونبرته نوعًا من الهجوم الحذر، الذي يحاول أن يهدم حصون العدو من دون أن يكسب أرضًا جديدة. على أن الكاتب شديد الوعي لنفسه، شديد الأمانة مع قارئه، فهو لا يزال بين الفينة والفينة يرد نفسه عن هجماته الجدلية وأحلامه الطوبوية جميعًا إلى الموضوعية البحتة، محاولًا أن يلتزم تحليل الواقع، وعلى الخصوص تحليل الألفاظ. ويَحسُنُ بالقارئ أن يتنبه من أول الأمر إلى أنَّ كاتبنا يتنقل بين هذه المواقف الثلاثة: الموقف الجدلي، والموقف الطوبوي، والموقف الموضوعي التحليلي، لتتضح قيمة الأفكار في كل حالة. والأمر سهل عندما يخلص الكاتب لموقف من هذه المواقف. ولكنَّه قد يمزج بينها، فيكون على القارئ أن يتبين امتزاج الحقيقة الموضوعية، والخطأ الناتج عن افتراضٍ لا مبرر له، في الفكرة الواحدة. وإليك بعضًا من أبرز الأمثلة على ذلك:

في الفصل الثاني، «الطبقة والصفوة»، يحاول إليوت أن يثبت أن الطبقة التي يتوارث أهلها الثروة والنفوذ، ضرورية لازدهار الثقافة. والملاحظات الموضوعية التي يقوم عليها هذا الفصل هي:

1 ـإنَّ تمايز الوظائف في المجتمع، بحيث تختص كل فئة بوظيفة معينة، سمة تصاحب رُقيّ الثقافة.

2 ـ إنَّ هذا التمايز يجب ألّا يحول بين اتصال الطوائف بعضها ببعض، ليكون في ثقافة المجتمع ككل، ذلك الانسجام الذي يجعل لها وحدة.

3 ـإنَّ الثقافة تتوارث، أي تُنقل من جيل إلى جيل.

وواضح أن هذه الملاحظات مجتمعة لا توصلنا إلى اعتبار قيام طبقة أرستقراطية على رأس المجتمع شرطًا لازدهار الثقافة، بل الأحرى أنها توصلنا إلى ضد هذه القضية ـ لو أخذنا بوجهة النظر المطلقة كما يفعل إليوت، ولم نعط اعتبارًا ما للظروف التاريخية ـ لأنَّ وجود الطبقة الأرستقراطية على رأس المجتمع يجعلها تميل إلى احتكار الوظائف العليا فيه، فيكون القيام بهذه الوظائف غير متوقف على كفاءة خاصة للقيام بها، كما أنَّ وجود هذه الطبقة بامتيازاتها يجعل للبلد الواحد ثقافتين: ثقافة أرستقراطية وثقافة شعبية، أي أنَّه يحول دون وحدة الثقافة. لهذا يضطر إليوت إلى أن يتصوَّر، في مجتمعه الطوبوي، «صفوة» و«صفوات» إلى جانب الطبقة الأرستقراطية. ثم لا يجد للطبقة الأرستقراطية وظيفة إلّا «أن تحافظ على مستويات الآداب الاجتماعية وتوصلها، وهي عنصر حيوي في ثقافة الفئة»! وهذا تبرير عجيب، وأعجب منه قوله في فصلٍ آخر (الفصل الثالث، وموضوعه الإقليمية، إلّا أنَّ الكاتب يعود، بما يشبه تأنيب الضمير، إلى موضوع الطبقات) إنَّ المجتمع اللاطبقي ينبغي أن ينبت الطبقة دائمًا، والمجتمع الطبقي ينبغي أن يميل إلى محو الفوارق بين طبقاته. ومعنى هذه الجملة أنَّ إليوت في تفكيره الطوبوي لا يستطيع أن يطمئن إلى فكرة مجتمع طبقي، ولا إلى فكرة مجتمع لا طبقي.

مثالٌ ثانٍ على امتزاج الحقيقة الموضوعية بالزعم الباطل في أفكار إليوت، وهو بيانه لتأثير الاستعمار في ثقافة الشعوب المستعمرة. فهو لا يكاد يشير إلى تخريب الاستعمار للثقافة الوطنية، حتى يعود فيؤكد أن هذا التخريب «لا يُدين الاستعمار نفسه بحال»! كأنما يمكن الفصل بين الاستعمار وآثاره بهذه السهولة، وكأنما جريرة تخريب الثقافة الوطنية هي كل ما ارتكبه الاستعمار من سيئات ـ لو أريد إحصاء سيئات الاستعمار. بل إنَّ إليوت لا يكتفي بذلك حتى يهاجم أعداء الاستعمار، مستنكرًا «أن نقحم أنفسنا (أي المستعمرين الغربيين) على مدينة أخرى ونجهِّز أفرادها بمبتكراتنا الميكانيكية ونُظُمنا في الحكم والتعليم والقانون والطب والمالية، ونوحي إليهم احتقار عاداتهم واتخاذ موقف مستنير من الخرافات الدينية ـ ثم نتركهم لينضجوا في الخليط الذي غَلَيناه لهم». وليست «المفاخر» التي ينسبها إليوت إلى الاستعمار بأشد مغالطة من الفكرة الضمنية وراء هذا الاستنكار. وهي أن ثقافة شعب من الشعوب يمكن أن يصنعها شعب آخر.

الصفحات