أنت هنا

قراءة كتاب جبل الزمرد

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
جبل الزمرد

جبل الزمرد

كتاب " جبل الزمرد " ، تأليف منصورة عز الدين ، والذي صدر عن دار التنوير عام 2014 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
دار النشر: دار التنوير
الصفحة رقم: 1

غبار الطريق

لستُ لي.. أنا منذورة لشيء غامض، وما عليَّ سوى المضي قُدمًا والتوحد بمصيري.

اسمي بستان!

من يعرفونني جيدًا، وهم قِلَّة، يسمونني «كاهنة الأبيض والأسود»!

الآخرون يرونني غريبة الأطوار. لو قُدِّر لكاتب أن يكتبني لوصفني بالمرأة الحوراء، أو ذات الشعر الفاحم والملابس السوداء، إلى آخر هذه الأوصاف المحدودة بالظاهر، غير القادرة على التقاط ما يتأجج بداخلي.

لن يتمكن أحد من اِكْتِنَاه ما أخبئه ولا ما أقدر عليه، كما لن يكون على علم بخفايا الوقائع التي جرت قبل قرون، ولها نذرت حياتي، لذا عليّ أن أكون الكاتبة، أو بالأحرى الحكَّاءة المنوط بها ملء ثغرات الحكاية وضمّ أجزائها معًا، حكاية لستُ بطلتها، لكنها لن تكون من دوني.

في العام الحادي عشر من الألفية الثالثة، وفي شقتي المطلة على نيل الزمالك، أنكفئ على التدوين بلا كلل. عالم قديم ينهار بالخارج وأنا مشدودة إلى كلمات مراوغة، لا تكف عن التسرب من بين أصابعي. كسحائب صيف عابرة، تمر بذهني مشاهد متتابعة من أزمان مختلفة، أقتنص بعضها، ويتملَّص مني بعضها الآخر.

أراني طفلة فوق جبال الـ»ديلم» في ستينات القرن العشرين، أعدو خلف أبي في تسكّعه الصباحي وهو ينشد أبياتًا للرومي أو العطّار أو حافظ. يسبقني بأمتار ثم ينتبه إلى تأخّري عنه، فيقف منتظرًا بصبر، وبخار الماء يتصاعد من فمه. ألحق به، فيُجلسني فوق صخرة مجاورة لأرتاح قليلًا. ويحكي لي، كما كل مرّة، شذرات من خبر موطننا الأصلي. وأنا، رغم البرودة الشديدة يدبُّ الدفء في جسدي، وأكمل له ما يغفله من تفاصيل، فيعانقني سعيدًا.

«نحن غرباء أبديون»! كان يقول كل مرة يُخرِج فيها تلك الرقوق والجلود العتيقة من خزانته السرية ويروح ينبِّه عليّ ألاّ أبوح بسرها لأحد، ساهيًا عن حقيقة أني أكاد لا أحادث أحدًا غيره. أعده بهذا، فيبدأ في تعليمي كيفية فك شِفرة ما بها. ينقل لي ما تعلّمه من أبيه. يهمس لي بأن السلسلة يجب أن تتوقف عندي، أسأله عمّا يعنيه، فيرد بأن ما لديه من علامات، ينبئه بأني الكاهنة المنتظَرة، ولا يزيد في الشرح.

أتذكره الآن، بينما أجلس في بيتي القاهري، فتحضرني روائح جبل «آلموت» ونباتاته، أكاد أبصر السفوح المكسوَّة بالخضرة والقمم المكللة بالثلوج والسهل المنبسط محتضنًا القرى المحيطة بجبال الديلم.

ذات يوم بعيد أشار أبي إلى ما أطلق عليه «أطلال قلعة آلموت»، وغاصت ملامحه كلها في أسى لم أدرك أسبابه. كان يقف منتصبًا مبالغًا في شد جسده، وهو يتأمل البقعة التي يصوِّب نحوها سبابته. لم أنظر إليها، بل تعلقت عيناي بوجهه الأليف بلحيته الخفيفة وشعره الرمادي.

انحدرنا نحو الأسفل، وبين برهة وأخرى كان يلتفت إلى الوراء ممعنًا النظر في أطلال لم أكن – إلى ذلك الوقت - أعرف عنها شيئًا. بعدها بيومين أجلسني بجانبه تحت شجرة كستناء، وحكى لي عن حسن الصبَّاح وطائفة الحشاشين. قال إن لا شيء يبقى سوى الحكايات، تنتهي الذاكرة بموت صاحبها، وتظل الحكايات كذاكرة بديلة متوارثة.

درَّبني مبكرًا على السرد والكتابة، مسربًا لي تدريجًا لمحات مما ينتظرني من مهام، أسمعني مئات الحواديت المستلَّة من دهاليز التاريخ الغابر، وأنشد لي آلاف أبيات الشعر. كنت ألتهم، بتشجيع منه، ما يقع تحت يدي من كتب.

اصطحبني تقريبًا إلى كل مكان ذهب إليه، معه زرت قبر عمر الخيام المحروس بالورود وقلوب المحبين، وخطوت في أروقة وأزقة مدينة مشهد المقدسة، وتجولت بين نيسابور وشيراز وأصفهان. «هذه مدن يتنفس فيها التاريخ ويعيش، ومع هذا يجب ألاّ تنسينا وطننا المشتهى»! يقول، ثم يغمض عينيه ويغرق داخل ذاته، فيخطر لي أن الوطن المحلوم به ليس سوى فكرة.

الصفحات