أنت هنا

قراءة كتاب حبيبتي كريت

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
حبيبتي كريت

حبيبتي كريت

رواية " حبيبتي كريت " للكاتب التركي سابا آلتن صاي، والتي ترجمها للعربية محمود أمين آغا، نقرأ منها:

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
المؤلف:
الصفحة رقم: 5
توقّف ابراهيم مليّاً عندَ جملة «أن تسحب الدّولة العثمانيّة جنودها»، ورجع ثانية إلى جملة «جميع الموظّفين»، وربّما نظر إلى عبارة «سيُعيّن الوالي من قبل الدول الحامية» أكثر من عشرين مرّة. قَرَأ بنود المنشور بصوت عالٍ. قلب بحركة سريعة الكرسيّ الخفيض المصنوع من القشّ عند الباب تماماً من الدّاخل، وأثناء القراءة، فتح كيس الحجارة الثمينة الّذي يأخذه معه إلى بيته مساءً، ويرجع به صباحاً. فَرَش الحجارة على راحة يده، جمعها، أغلق الكيس، وزجّه تحت المنضدة، ثبّت الكرسيّ الذي قَلَبه، وجلس في وسط الدّكّان، لفّ ساعديه على صدره، احدودب بثَنْي صدره. ترنّح إلى الأمام حيناً، وإلى الوراء حيناً آخر. لم يهدأ. نهض، كان بجسده الضّخم يتحرّك، يروح ويغدو مرّة إلى الباب، ومرّة إلى الطّرف السُّفْلي حيث الغرفة الدّاخلية المقفلة، وكأنه طريدة عَلِقت في الفخّ.
أطلقَ نظرات مريبة غامضة على باب الغرفة الدّاخلية التي كان يقطّع فيها شذرات الألماس مع أبيه، ويذيب قطع الذّهب ليصنع منها حِليًّا ومجوهرات غالية لا مثيل لها، بأشكال مختلفة. تحسّس سكّينه، كان سيخرجها، لكنّه تراجع في اللّحظة الأخيرة، أبقاها في زنّاره. لا يهدأ غضبه أو يسكن بحالٍ من الأحوال. لا يدري ماذا يفعل؟ اضطرب عقله، قلّبَ بنات أفكاره في رأسه، لم يصْفُ ذهنه. كلّما اغتمّ، واسودّت عينُه، راوده خوف من تشتّت عقله وغياب فكره؛ يصكّ أسنانه، يتحرّك عشوائياً، وأخيراً يهتدي إلى رُشْده فيرتاح وكأنه عثر على صديق قديم، يبلع ريقه مع كلّ نفس يتنفّسُه. وما إن يستعيد صوابه حتّى يتلاشى غضبه. لم يستطع أن يعدّ المرات التي بلعَ فيها ريقه، تَعِبَ من كثرة تحرّكه في الدّكان جيئةً وذهاباً. سرى الوجع إلى ساقَيْه. وقف بغتةً. وكما لو تعطلت السّاعة على حين غرّة بعد أن كانت تعمل بانتظام، وكما لو سقط الطائر أرضاً مثل حجرة ثقيلة، بعد أن كان يحلّق باسطاً جناحيه، كذلك هو حال ابراهيم. ها هو ذا، أمام المحلّ، ظهره إلى الدّكّان، إحدى يديه على المطرقة ملتصقة، والأخرى على جبينه جامدة دون حراك. مضى خياله إلى البعيد، بعد أن حوّم فوق الشوارع والمنازل، وقطع مسافات بعيدة، لا تسْتطيع حتّى الطّيور أن تصل إليها. وبقي هكذا إلى أن اختلطت السّوق وشوارع «هانْيا» وبيوتها وشجرات المصطَلى وغيوم السّماء، والبحر، بضياء الكون تماماً.
في الطرف الآخر من السوق سُمِعَ صوت صرير المصراع الذي انفتح إلى المنتصف في دكّان الحذّاء أحمد أفندي «كوشينبوتو»، لكنّه لم ينتبه إلى ذلك جيّداً. وعندما لم يسمع صوت حركة لسحّاب دكّان آخر انتفض. ترك كلّ شيء كما هو.. الدّكّان، الكيس، كلّ شيء، وجرى لاهثاً يلفظ الأنفاس. وما إن رآه الحذّاء أحمد أفندي حتى تراجع مثل النّار منتفضاً. وظل يطيل النظر دون وعي في العيون السوداء، وإلى شفتيه اللتين لا تنطبقان، وثم إلى الورقة.
«ماذا في تلك الورقة؟».
كلّما قَرَأ ابراهيم، احمرّ عنق وصدر أحمد أفندي الملقب بـ (كوشينبوتو) أي الصّدر الأحمر. انتشرت الحمرة في وجهه، ومنابت شعره. وعندما انتهى ابراهيم من القراءة، لم يكن الرجل يفتح فمه. اختلطت صيحات النّوارس بأصوات أبواب الدّكاكين. ولم يتمالك أحمد أفندي نفسه إلاّ بعد فترة طويلة، إذ وقال:
«ما أشدّ أسفي على مَنْ لقَوْا مصرعهم في تسيليا! ضاعت «كريت» يا بنيّ!!».
«لا يمكن أن تضيع أبداً. لا تتكلّم هكذا!»
إنْ لم يمسكِ أحمد أفندي بابراهيم، فربما سيهوي مغشياً عليه في زاوية، أو سيضربُ على الزّاوية بقبضة يده، أو برأسه، أو بجسده أو بأيّ عضوٍ منه، ثمّ يمزّق نفسه هناك. هذا ما كان يبدو عليه. تزعزع أحمد أفندي من سوء حال ابراهيم. بدأ يهدّئ من روعه بكلمات تكاد تخرج بعسر من بين أنفاسه، وتمتم في أذنه:
«أنت تقول هذا يا ولدي! لكن لا نعرف الواقع هناك؟ يقولون: نرسل الجنود العثمانيين مرّة ثانية، من سيحمينا برأيك؟ لمن نسلّم أرواحنا وأموالنا؟ إذا كنْت تعرف فقلْ. يقول في المنشور: ونرسل الموظفين أيضاً. فإذا اضطررت لعمل أو تجارة هناك، فانتظر سنة أو أكثر! ويقول: يمدّ يده ونفوذه إلى هنا. يعيّنون والياً نصْرانياً من اليونان فوق رؤوسنا وينتهي الأمر. و«تسيليا» التي ربحْناها في السنة الماضية تضيع هباءً».
كان ابراهيم يضرب الأرض بكعب «جزمته» المحلّيّة. كان يصرخ من جهة أخرى: «منذ أن فتحْت عيني للحياة أعرف أنّهم لا يريدوننا هنا. ونحن لم نذهب، لم نذهب إلى مكان آخر قطّ».

الصفحات