أنت هنا

قراءة كتاب حبيبتي كريت

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
حبيبتي كريت

حبيبتي كريت

رواية " حبيبتي كريت " للكاتب التركي سابا آلتن صاي، والتي ترجمها للعربية محمود أمين آغا، نقرأ منها:

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
المؤلف:
الصفحة رقم: 6

التفت أحمد أفندي يُمنة ويسرة، وضع إبْهامه على فم أحمد قائلاً:
«اسكتْ يا «بديمو»(1) لا تصرخ.. إلى أين سيذهب الإنسان تاركاً داره وحقله، حتّى نذهب نحن أيضاً؟ منذ تاريخ (21)(2) وهؤلاء ينتفضون، أنت لا تعرف ذلك. كنت حينذاك صغيراً. لم يكن أبوك وقتذاك قد وُلِد بعْدُ. وانتفضوا في (1830)، وفي (41..) تمرّدوا، وكذلك في (66). حتى هم لا يعرفون عدد الانتفاضات التي أشعلوها. وبعد الحرب الروسية العثمانية سنة 78 انتفضوا للانضمام إلى مركزهم الأمّ. في كلّ حرب انهزم فيها العثمانيّون قاموا بعصيان منادينَ بالاستقلال، وذبحونا فيها».
«ونحن أيضاً نفظّع فيهم».
«نذبّح فيهم، لكنّهم لا ينتهون يا ولدي. وأنت أيضاً إذا ساندك هؤلاء الذين كتبوا المنشور، تبقى محميّاً مظفّراً. لا تُعَالَجُ هذه الأمور بالتّقتيل والتنكيل. في عصيان سنة (78) كان هناك رجل سقّاء اسمه «بَيْرَم» يغادر المقهى في الليل، ويتوجّه إلى منطقة التّجاويف في «سَريسو» فيكمن حتّى الصّباح، ويفتك بكلّ شخص تناله يداه مثل عزرائيل. وعندما ينبلج الصّباح يعود أدراجه، فيلبس ثيابه، ويبدأ بتوزيع الماء على البيوت. لا أحد كان يتوقّع أن يقتل كلّ فردٍ يصادفه في الجبل، لا يعرفونه إلا زبوناً في المقهى. في أحد الأيّام تعقّبوه، ولم يستطيعوا أن يعثروا له على أثر. وفي اليوم الثّاني قالوا له: «وجهُك ذابل، وعيناك محمرّتان. يبدو أنّك لم تنم الليلة». فاعتقلوه، وفي الصّباح كان جسده معلّقاً على شجرة الحور في ساحة «تعمير خانة» في «هاله باده». لا تنتهي هذه المسألة بالقتل والتّقطيع. يُفْتَرض أن تعقد الدّولة العثمانية مجلساً، وتُنْزل قبضة يدها بحزم على طاولة المفاوضات لتقول: «أنا المكلّفة بحماية «كريت» وأنا صاحبةُ القول الفصل. انظرْ حينذاك هل ترى من يرفع صوته؟».
«لا تضحكْني يا (ذا الصّدر الأحمر). لا تملك الدولة العثمانية القدرة على أن تهوي بقبضتها على طاولة أحد. ما قلْتَه صحيح إذنْ. واأسفاه على الّذين لقَوْا مصرعهم».
أرخى ابراهيم كتفيه المشدودين أثناء قوله ذلك، فبرز احديدابُ ظهره أكثر.
«آه كم سترى أعينُنا من مآسٍ يا ولدي. وكأنّ ما شهدناه لا يكفي! ما زلْت شابّاً يا بنيّ! أنا أخاف عليكم».
كان «كوشينبوتو» يريد أن يتكلّم أكثر، لكنّه قطع حبل كلامه. أدار رأسه، وانعطف: «إذا كان «أبدالا» فاتحاً المقهى، فاطلبْ لي فنجان قهوة. وعندما يأتي والدك قلْ له أن يمرّ عليّ».
تذكّر ابراهيم حينها أنّه ترك باب الدكان وسحّابه مفتوحاً، وأسرع إلى هنا هلعاً. لِمَ العجلة؟ بدأ يمشي بخطوات طويلة إلى المحلّ.
عند دخوله من الباب وجد «مصطفى أفندي» منتصباً في وسط الدّكّان. كانا يشبهان بعضهما. وجهاهما، مشيتُهما، هيئتهما نفسها. جسد ابراهيم فاتح اللون، خدّاه المورّدان، وجهه الرقيق المتطاول، يشبه أمّه عزيزة هانم. أمّا قامتُه، وقدّه، ووقاره، وما رسمْت الحكمة عليه، فيَنْزعُ بها إلى أبيه. مَنْ لا يعرفهما ـ وخاصّةً إذا احمرّت عيناه من الغضب، ورغا وأزبد، وقلب كلّ شيء أمامه، وكأنّه السّيل الجارف ـ فإنّه لا يميّز بين الأب والابن. إنّ علائم النُّبل لمصطفى أفندي منتقلة إلى طباع ابراهيم، ولكنّ نقطة الاختلاف تبدأ هنا. كان في نظرات عزيزة هانم المعتدلة الهادئة أثر من اختلاج العين وهياج النظرة الأرناؤوطية (الألبانيّة). كان دم ابراهيم الكريتي الذي يأخذ من العنصرين يغلي، يفور حميّة دون انقطاع.
قال مصطفى أفندي: سمعْتُ يا «بيضة عشّي». كان ابراهيم أكبر إخوته وهم: بنتان، وذكران. وقول الأب «بوتوكو» أي: بيضة العشّ لا يناسب مقام ابراهيم بعد ولادة أشقّائه بعده البتّة. لكن الأب كان يحبُّ ابنه الأكبر البِكْر كثيراً. ليس الأمر بيده.
«أحضر «أبدالا» مثل الّتي بيدك».
لاح ابراهيم من الباب دون أن يبدي أيّ جواب. ثمّ نطق: «أبدالا» وأكمل (كوشينبوتو) يريد قهوته» وحَرَفَ اتّجاهه، قذف الورقة الّتي جعّدها. فتح الغرفة الجوّانية، دخل، وقفل الباب من الدّاخل. وما إن اقترب من منضدة العمل حتّى سحب قطعة الجلد المدبوغ التي نشرها من قبل. أخذ الخاتم الذّهبيّ الذي تعبَ عليه البارحة، والألماسة الثالثة، بيده، ليثبّتها بمسامير.
قرَّبَ جسمه من الرفّ الخشبيّ المائل المثبت على الجزء العُلْوي من الطّاولة، محاذياً لصدره. ثبّت العدسة المكبّرة على عينه اليمنى. عندما تفحّص القطعة التي صاغها بعين مجرّبة حاذقة لم يعجبْه صنعها. كانت حوافّ الماسّة ناشزة، لا تبدو نظيفة تماماً. كانت تعرقل بريق الماسة. ليس عنده صانع بالأصل. وإلا لانهال عليه بصفعة على الطريقة العثمانيّة من الطّراز الممتاز، تنال حتى إعجاب الذي تلقّى الصّفعة. رفع الخاتم بحرص. بحث عمّن يوجّه إليه الصفعة أو يتلقى منه الصفعة على سوء أدائه. أنزل قبضته على سطح الطّاولة بقوّة تألّمت لها روحه. لاحظ ذلك عند طقطقة أصابعه. يداه اليوم غير نشيطتَيْن. وهما متسرّعتان كثيراً. يجدر بيد الصّائغ أن تكون متأنّية دقيقة. إن تسرّعت أصابها الارتجاف، وأوقعت صاحبها في مهوى الفشل لا قدّر الله.
آه لو أنّه يقوم بتلك الصّفْعة العثمانية لسكنت يده وقلبه، وسكت غضبُه. من هو هذا العثمانّي الذي لا تتحمل روحُ بشرٍ ألمَ صفعته؟! ما هي إستانبول، وكيف تكون؟ هل يحمل هواؤها، ماؤها، شبهاً لـ «كريت»؟ هل (كانيفارو) هكذا؟ هل تحسّ بظروف هذه المنطقة؟ إنّ هؤلاء البشر هنا يطالبون دائماً بالانضمام لسيادة الأمّ. ماذا يقول الإنسان العثمانّي؟! لماذا تسمح لهم السلطنة بهذه المظاهر طالما هي سلطنة عظيمة «عليّة»!.

الصفحات