أنت هنا

قراءة كتاب حبيبتي كريت

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
حبيبتي كريت

حبيبتي كريت

رواية " حبيبتي كريت " للكاتب التركي سابا آلتن صاي، والتي ترجمها للعربية محمود أمين آغا، نقرأ منها:

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
المؤلف:
الصفحة رقم: 7
في الانتفاضة الدموية للروم سنة 96، قبل عامين، أعقب ذلك فوراً توافد 1500 جندي من (بيره) و(سلانيك)، وجاء سلاح بهذا العدد أيضاً. احتشد سائر السّكان المسلمين في القرى والأقضية، تركوا وراءهم بيوتهم وحدائقهم، ولجؤوا إلى المدن خوفاً من الذّبح. لم تعد «هانيا» تستوعب المزيد من الأشخاص. إنهم ينامون في الشوارع، والمساجد، والتّكايا. يمرضون، يجوعون، يتعرضون للرصاص، يموتون. كانت كريت سوقاً ومسرحاً للأرواح المزهوقة، فلو جمعت دماء المسلمين والنّصارى التي أريقت لتشكّلت منها سيول في الشّوارع.
كان ابراهيم يكتم أنفاسه، حتى ليشعر بالاختناق، لكنه نفخَ فجأة، ورفع المكبّرة والخاتم، ورماهما في الدّرج. وخرج من الغرفة.
جاءت قهوة أبيه المرّة منذ وقت طويل، انتبه إلى نفاذ نصفها. جالَ بصره إلى الخارج. لمح البقّال حليم آكيس، والحذاء «تراكيس» يفتحان أبواب دكّانَيْهِما. كانت شفاههما مطبقة، لا تلفظ أيّ حرف أبداً. بدأ المسيحيّ «تراكيس» يطرق فِلْذات الحديد (طق.. طق).. وجهه الكبير بمقدار خمسة أشبار، كِرْشه يتدلّى حتّى الركبتَيْن تقريباً. كان يجلس على كرسيه الخفيض في هيئة غريبة! مكدّراً، حتى بدا كأنما لا يتنفس ذرات الهواء المشبعة بالغبار.
«كانيفارو» التي بدأت يومها بتبرّم، تُعَدُّ من الشوارع الداخلّية لـ (هانيا). كانت منبسطة طويلة. كانت سوقاً تتوزّع فيها الدّكاكين على الجانبين، يتجمّع فيها الباعة المسيحيّون والمسلمون والمعلّمون الحرفيّون، ويتفاعل فيها الناس في كلّ وقت من أوقات اليوم. كلّ دكان يحمل صوتاً خاصّاً به، يفيض من الباب، ويذيعُ في المحيط. تتفاعل فيها الأصوات التي تصدر من كلّ محل: صوت مطرقة النّحّاس، أزيز المِرْجل لصانع «الرّاحة»، خشخشة صفحات الكتب للمكتبيّ، لفائف أوراق السجائر لصانع التبغ، صوت تفريغ بائع الأطعمة للقمح من كيس إلى كيس، وكفّات الميزان لبائع السّمن، وأصوات مقصّ النّسّاج، والوعاء المعدني للفرّان.. تتفاعل هذه الأصوات، تتوحّد، لتعطي الصوت الخاصّ لـ (كانيفارو). لا يخفى على أحد ما يفعله أيّ شخص في السّوق: كأنْ يصوغ ابراهيم حلية ذهبيّة، أو تأتي صفقة قماش للطرابيشيّ... تحضير الحلواني للسّكّر، دق الإسكافي للجلد المدبوغ، وخز الإبرة لصانع أمتعة البهائم، وشعور تراكيس بالنُّعاس، وبيع السمْسار بيتاً لأحد الموظفين في القنصلية الإيطاليّة في هذه الآونة.. كان كلّ ذلك بالتمام.
ويروى أيضاً أنه في الأوقات العصيبة قد يدبّ خلاف عابر بين النّصارى والمسلمين، إذْ يتصارخون، ونادراً ما يتضاربون. وعقب ذلك يتبادلون عبارات اللوم والعتاب، ليهدّئوا النّفوس. كانت التجارة عصبُ «كانيفارو»، و«كانيفارو» هي الشريان المتدفّق لـ (هانيا). وأيّ خطبْ مؤلم كان يترك ضرره على الجميع. وهذا ما يعرفه جميع أبناء «كانيفارو» سواء كانوا مسلمين أم مسيحييّن. كان الصلح بينهم سهلاً، لكنْ لا أحد يعرف مآل الأحداث اليوم.
لو حدث في وقت آخر مثلاً أنْ وجّه البقال حليم آكيس كلمة مزعجة للمسيحيّ «ملاتيوس» لهبّ ابن دينه «تراكيس» فوراً للمصالحة، ووزّع الشطائر (كوكوجينا) اللذيذة الفوّاحة التي أحضرتها زوجته، يميناً وشمالاً. فهذه الشطائر المؤلّفة من الفطير المشرّب بزيت الزيتون وقِطع الجبن، واليقطين، بلذّتها الفائفة، كانت كفيلة بإرضائهم وتهدئتهم، وتحسين مزاجهم المتعكّر. ولو حدث أن انزعج تراكيس، وقذف بكلمة قاسية على أحدهم، لتصدّى بائع السّكاكر عيساكو لإصلاح ذات بينهما. ذاك الشخص كان يهوديّاً.. هو أيضاً كان يقطرُ سُمّاً اليوم. لقد عاين الرجل الوضع السيّئ للمسلمين الذين قرؤوا الورقة قبل قليل، فشعر بالخوف، لذلك تأهّب من الآن للمصالحة بين الأطراف.
كان جسد ابراهيم يخرج من باب الدكان بركانَ غضب، وإذا بقَرْع طبلٍ يتناهى إلى الأسماع. كان المنادي ينادي بأعلى صوته. الكلّ آذان صاغية. الصوت يقترب أكثر. أقفلوا الأبواب، وضعوا المفاتيح على خواصرهم، وبدؤوا يتقاطرون للاجتماع. توجّه الجميع نصارى ومسلمين إلى مَيْدان «سبلاتسْيا» رأساً. ساروا بخطواتٍ ثقيلة سوّت تراب الأرض. ساعدوا المنادي ليرتقي المصطبة الموضوعة تحت شجرة الحور. ومُدّ له الطبل. قرع الطبل بعصاه عدّة مرّات. صرخ الرجل بنبرة صوت ضخمة، وهو يقف طويلاً عند كل كلّمة يلفظها برومانية «كريت»: أيّها الكريتيون!
وفق القرار الذي اتخذه القناصلة، سينسحبُ عسكر العثمانلية واليونان من «كريت»! لن يعيّن العثمانيون الوالي. وسيُعلّق عمل ومهامّ الموظّفين!».
قرأ البيان. وعندما انتهى منه قرع الطبل ثلاث مرات. ونزلَ من حيث صعد. خيّم الصّمت على الساحة الكبيرة: حشود الأهالي، الحور، شجرات الأكاسيا، أشجار الخرّوب، القطط، طيور الوروار، الذّباب، النّمل، والفراش، كلّ ذلك غرقَ في صَمْتٍ مطبق. لا صوت أبداً. عمّ الهدوء، نزل صمْتٌ مثل تدنّي سحابة ماطرة آن أوان انهمارها، دنا فوق الرؤوس في الميدان، والأكتاف.

الصفحات