أنت هنا

قراءة كتاب بالأحضان يا بلدنا

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
بالأحضان يا بلدنا

بالأحضان يا بلدنا

كتاب " بالأحضان يا بلدنا " ، تأليف أحمد علبي ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2009 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 1

أََحمد عُلَبي في أدب الرحلة

بقلم الأديب الشاعر: جان سالمه

«بالأَحضان يا بلدنا»!

بهذا العُنْوان البسيط، المغري، يستهلُّ الدكتور أَحمد عُلَبي كتابَه الذي يحملُ الرقمَ السادسَ عَشَرَ؛ بعد «ثورة الزَّنْج»، «ابن المقفَّع»، «طه حُسَين»، «تحت وِسادتي»، «في حنايا الوطن الملهَم»، «يوميّات مجنون ليلى»، وغيرها مِنَ الأَعمال القيّمةِ التي أغْنَتِ الأدبَ اللبنانيَّ والعربيَّ.

نحن أمامَ مصنَّفٍ من نوعٍ طريف، هو كنايةٌ عن رحلاتٍ واعترافاتٍ وحميميّاتٍ، وذكرياتٍ وانطباعاتٍ تُعيدُك إلى أَيّامِ زمان. فتشدُّكَ مِنَ الأَسطُرِ الأولى، مُسْتحوذةً على انتباهِكَ، فإذا أنتَ في دنيا جديدةٍ لا عهدَ لكَ بها، حَوَتْ كلَّ ما لذَّ وطابَ من مِتَعِ السياحةِ، ولو ضِمْنَ البلدِ الواحد. حتّى لكأنّ هذه الحكايات، على حدّ تعبيرٍ للكاتب عن مَوْطنه: «كقطعة السُّكَّر، تلتقطها بلسانِكَ فتجدها زاكيةَ الطَّعْم من جوانبها كافّةً» (ص27).

أغنيةُ وديع الصّافي التي مطلعها «لبنان عَ مدِّ النَّظَر» تلخّصُ أَفضلَ تلخيصٍ محتوياتِ الكتاب، الذي يسوحُ بكَ صاحبُه في معالمِ الوطن، من جنوبه إلى شَماله، ومن سفوحه إلى وِديانه؛ ويرافقكَ إلى رياضهِ الغنّاء، ويشرحُ لكَ، كالدليلِ الأمين، كلَّ ما ترغبُ في معرفته عن هذهِ أو تلكَ مِنَ المناطق.

ولئِنْ نقلكَ تارةً إلى البِقاع وطوراً إلى دُوْما أو إهدن أو غيرهما، فإنّه لا ينسى أنْ يُريكَ وجهَ بيروتَ السّاطعَ، حبيبتِه ومدلّلتِه، فيخصّها بصفحاتٍ مُشرقةٍ لا أَمتعَ منها ولا أَجمل! أَمَّا الفضلُ في ذلكَ فيعودُ إلى اُبنه «وضّاح»، ذلكَ الشابِّ الوسيم الأنيق المثقّف، الذي هو سرُّ أبيه. فلولا إلحاحُه على أبيه في الكتابة عن بيروت، لما حظينا، وما حظيتْ عاصمتُنا بالتالي، بمثلِ هذه التُّحفةِ الثمينة مِنَ الأدب الرفيعِ الممتع. فحديقةُ الصنايع، العزيزةُ على قلبه أكثرَ ما يكونُ، والتي تَبْعُدُ مسافةَ خُطُواتٍ عن بيته، هي محطُّ رِحاله، وملعبُ أُنْسه. كيف لا، وقد خصّها بلفتةٍ طيّبةٍ من نفحات قلمِه السيّال، ومن خلجات روحِه السنيّة!

في هذه الصَّفَحاتِ التي يُطلقُ عليها صاحبها اُسم «في أدب الرحلة»، وهي حقّاً وفعلاً كذلكَ، تعيشُ معه أَيّامَه ولياليَه، وتتنقّلُ في المرتفعات والمنعطفاتِ، ترويحاً عنِ النفس، وطلباً للتسلية، فتُمضي برفقتِه أَلذَّ وأَطيبَ ساعاتِ عمركَ، منتشياً من خمرة الجمالاتِ التي يسكبُها في كؤوسٍ لازورْديّةٍ قُزَحيّةٍ.

عالمُهُ هو عالمٌ معجِزٌ ساحر، هذا الذي يسكنُه أَحمد عُلَبي! فهو يفتحُ لكَ قلبه على مصراعيه، ولا يتركُ سِرّاً دفيناً، بل تراه يُشْركُكَ في تفكيره وأَحلامه ورُؤاهُ الورديّة، ويتحدّثُ إليكَ حديث الصّديق إلى الصّديق. فإذا أشرفَتِ الرحلة «العُلَبيّة» على نهايتها، خرجتَ بأَحسنِ انطباعٍ عَنْ هذا الأديبِ الذي يتميّز بالشفافيّة والموضوعيّة، المفطورِ على المحبّة والأصالة، والذي يأبى إلّا أنْ يقاسمكَ سعادته، ويشاطركَ في نُزُهاته الأُسبوعيّة في رُبُوع هذا الوطن العزيز، وطنِ الأَوطان وعُنْوان الحضارة الآسرة.

يبدو لنا أَحمد عُلَبي في هذا الكتاب مغرماً بكلّ ما هو بسيطٌ، أيْ بالطبيعة ومخلوقاتِها، إذْ يعرفُ كيفَ يستمتعُ باللحظة الحاضرة، نظيرَ كلِّ الذينَ اختبروا الحياة، وتمرّسوا بشؤونها وشجونها، وأحبّوها كلَّ الحبّ. لنقرأ ما يقول عن بلده: «هو وطنٌ بديعٌ، مبدعٌ، ربيعيُّ الأَعطافِ؛ ولكنّه مبتلًى بعلّةٍ، وهي الطائفيّةُ البغيضةُ؛ فلو أنّه عرفَ السبيلَ إلى مداواتها بالديمقراطيّة الراقيةِ الحقيقيّة، لغدا جَنّةَ الوطن العربيّ الفسيح» (ص28).

عسى أنْ تتحقّقَ أحلامُه، ويأتيَ يومٌ نستأصلُ فيه شرَّ هذا الدّاء الوبيل، الضّاربِ بجذوره في أَعماق النفوسِ والعقول. فهل مِنْ شِفاءٍ؟ هل مِنْ رجوعٍ إلى الضمير، إلى قِيَمنا المشرقِيّةِ التي لا بديلَ لنا عنها؟

خلال قطعته «غروب» يقول الدكتور عُلَبي: «نحن نشاهدُ القِشْرَة الخارجيّةَ من طبائعِ البشر، حتّى إذا ما أُتيحَ لنا أنْ نلجَ خلفَ الشقوق، من طريقِ واحدٍ أدرك وروى وأشاع، أو من طريقِ اُمرئٍ طفحَ صدرُه وغَلَتْ عروقُه، فرغِبَ أنْ يبثَّ ويعترفَ، لئلّا تخنُقَه الغُصَصُ وتُرديَه الزفرات؛ إذا ما أُتيح لنا هذا أو ذاكَ هالنا الأمرُ واجتاحَنا العَجَبُ، ورسخَ في ذهننا ما كنّا نعلمُه مِنْ أنّ الناسَ أَبوابٌ مغلقةٌ وآبارٌ مطمورة» (ص35).

لكمْ، لكمْ هذا صحيحٌ! وكم يذكّرني ببيتَيْن شهيرين للشاعر الفرنسيّ الكبير، پــــيار كورناي، في مسرحيّته الرائعة «هوراس» (1640م) حيثُ يقول الشيءَ نفسه:

Le monde qui voit tout seulement par l’écorce

S’attache à son effet pour juger de sa force.

يقول أديبنا بلسانِ مَنْ قَرِفَ واشْمأَزَّ من هذا البلد، ومِنْ سياسيّيه وزعمائِه، على الرُّغْمِ من غَيْرته عليه، وتعلّقِه الشّديدِ به، بل وعُشْقِهِ الكَلِف بكلِّ ذَرّةٍ من حبّاتِ ذَهَبِ تُرابِه المقدَّس. فيُطلقُ صرختَه المدوّيةَ، وهي لَعَمري صرخةُ حقٍّ لا يُداخله الباطل. فعسى أنْ يَصِلَ إلى كلّ الآذان، وآذانِ المسؤولينَ بالدرجة الأولى. يقول أَحمد عُلَبي إنّه «لا يزال يأمُلُ، برُغْم جبلِ الهزائم والنَّكَساتِ، وهي ليستْ هزائمَه الشخصيّةَ ولا نَكَساتِه؛ إنّها قِصّةُ عَرَبٍ يخرجونَ مِنَ التاريخ، والثروةُ عندهم بعددِ رمالِ الصحارى، ولكنّها ثروةٌ مضيَّعَةٌ، وحكّامٌ لاهونَ، والزمنُ يتقدّمُ، ونحنُ بالقياسِ نزدادُ بَشَراً أُمِّيّينَ ونتأخّر» (ص91 و92)!

الصفحات