أنت هنا

قراءة كتاب أسطورة ساش

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
أسطورة ساش

أسطورة ساش

كتاب " أسطورة ساش " ، تأليف صالح بن إبراهيم السكاكر ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2010 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 1

مدخل

.. ليس في الدنيا منظر أبشع من منظر هؤلاء اليتامى أو أبناء الزنى وسائر أولئك الذين نبذهم المجتمع...

دوستويفسكي في «المراهق»

(1)

الصداقة، ذلك البحر الكبير، النهر الذي لا ينضب أبداً، يتدفق سيلها مدراراً، لا تعرف الكلل أو الملل، الصداقة جنة بل أعطيةٌ، لا تعطى ولا تمنح إلا لمن يستحقها، الصداقة ذلك الشيء الذي تتلاشى أمامه كل الأشياء ويقف الجميع له احتراماً وتبجيلاً وتحية. الصداقة هي الروح التي تُمنح لنا في حياتنا الاجتماعية، يستطيع الواحد منا أن يعيش بلا أخ وبلا أخت ولكن بلا صديق صادق فمستحيل. يتضح ذلك عندما تمنحنا الحياة أكبر أُعطية وهي الأخ الصديق، نحن نحتاج إلى الصداقة لأننا نحيا، ونحن نحيا ونتحمل ونتعايش مع الناس لأن في واقعنا صديقاً يهتم بنا، يساعدنا ويمنحنا الإيمان والثقة بالنفس. عندما أتحدث عن الصداقة فأنا لا أتحدث عنها بمفهومها الضيق المحصور لأغلب عقولنا بل إني أتحدث عنها بجميع أشكالها وصورها المتعددة، فصداقة الإنسان لكتابة وصداقة الأب لابنه وكذلك صداقة الأم لابنتها أعظم صداقة وأعمق صداقة لأنها تنبع من أعماق الروح والإحساس بالطرف الآخر وعواطفه وخلجات مشاعره، فالحياة مهما كانت جميلة ومهما كان واقعنا أجمل تظل الحياة مليئة بالحجارة والعثرات التي قد لا تصادفنا الآن ولكنها قد تكتسحنا بعد فترة! كيف نحمي أنفسنا؟ كيف نقوي عزائمنا؟ كيف نزرع الثقة في ذواتنا؟ هل نعيش منعزلين عن البشر أم نذهب بعيداً إلى القمر أم نظل مستسلمين بلا حركة ولا صوت كالحجر؟ ماذا نفعل؟! سؤال كبير يقتحم الوجود بأسره.. الصداقة والأصدقاء هما الحل لنا، لأننا نعيش مع الناس وخلال الناس وفي محيط الناس، فالحياة الاجتماعية سلسلة مشتركة ومترابطة فأنت تعيش بجسدك مع الغير تختلط بالبشر وتتعايش معهم وتتمازج بأفكارك معهم، كيف يحمي الإنسان نفسه؟ كيف يقوي عزيمته؟ الصداقة وأعلنها مراراً وتكراراً هي البحر العظيم، الواحة المليئة بالخيرات ولكن بشرط أن نختار بأنفسنا ذلك الصديق ولا نوكل تلك المهمة لا إلى الزمان ولا إلى المكان، فجمال الصداقة واستمرارها هو أن يختار الواحد منا أصدقاءه لأنه الوحيد القادر على فهم نفسه ومعرفة ما يتقبله ويستأنس له، لذلك أقولها ألف مرة يجب أن يختار الواحد منا أصدقاءه بنفسه...لذلك كنا ثلاثة أصدقاء..

كنا ثلاثة أصدقاء..أنا وأحمد وشاهين ثلاثة أصدقاء كالنجوم تتلألأ في السماء، ثلاثة أصدقاء تجمعنا المحبة والود والإخاء، تجمعنا الصداقة المبنية على التوافق والانسجام والواقع المشترك! ثلاثة أصدقاء دائماً ما نلتقي إما لقاء طعام أو لقاء قهوة أو لقاء ثقافة عقلٍ..نعم كنا نلتقي ونتبادل المناقشات والأطروحات، كانت لقاءاتنا تشبه أن تكون سهرات أثينية (1) وجلسات ثقافية وحوارات فكرية اجتماعية، وأحياناً كنا بسنواتنا القليلة نتجاوز الخطوط الحمراء ونتحاور بالسياسة، كانت اهتماماتنا توحي وتدل لمن ينظر إلينا على أننا نماذج مشرقة وصفحات بيضاء تبعث في نفس المتأمل لنا الأمل والبهجة والسرور وقبل كل ذلك الافتخار بهؤلاء الشباب الثلاثة، فقد كنا في كل لقاء نتفق على موضوع معين ونستعد له. فأحياناً كنا نتناقش عن المذاهب والملل والنِحل وأحياناً نتحدث عن الحب ومراتبه وغاياته ونقفز لنتكلم عن العظماء عبر تاريخ البشرية أجمع، وأحياناً كنا نهرب من الواقع ونسافر بخيالنا استغراباً للأسئلة المتعددة، نسافر هناك للفلسفة ومذاهبها وروادها ومدارسها كنا نتحدث عن الفلسفة من الأزمنة الغابرة حتى ظهور الإسلام إلى وقتنا الحاضر، كنا نناقش الفلسفة نحاورها وتحاورنا نسألها العديد من الأسئلة والتي بدورها لا ترد إلا بالقليل من الأجوبة، كنا نأخذ كل فيلسوف نحاول أن نفهم فلسفته ونبحث عن بطلانها أو إثباتها من حضارتنا وتاريخنا، وكذلك كنا نتكلم عن المؤلفين وكتبهم وفلسفتهم في الحياة فكما نعلم أن لكل إنسان صغيراً كان أم كبيراً متعلماً أم جاهلاً فلسفة تختص به وليست لغيره. كنا نتحدث عن المدارس الفلسفية من أفلاطون وجمهوريته إلى أرسطو وكذلك ديكارت ووجوديته.. ونقفز إلى العملاق دوستويفسكي وكتبه المتلألئة التي يعجز قلمي أن يصفها ويصف ما خطته أنامل ذلك المبدع. وكنا نرجع بتحليلاتنا إلى ابن خلدون ومقدمته العملاقة وفلسفته في التاريخ، وأحياناً كنا نهرب إلى شاعر الفلاسفة أبي العلاء المعري ورسالة الغفران واللزوميات..كنا نتناقش مناقشات ثقافية تتعدى أعمارنا وكان الكتاب لا يفارقنا بل هو صديقنا الرابع الذي دائماً ما يلازمنا ولا يبتعد عنا لأنه كالأكل لنا، كنا نأكل ونأكل من الأوراق لنملأ عقولنا! نعم كان زادنا الكتاب فقد كانت عقولنا طماعة تريد المزيد ولا تتوقف عن أكل الأوراق! كنا عندما نجتمع نحضر مسجلاً ونسجل نقاشنا وبعد الانتهاء نجلس بصحبة أكواب الشاي المشبع بالنعناع لنستمع إلى أطروحاتنا الثقافية المتواضعة! فقمة المتعة أن يستمع الواحد إلى فلسفته وأفكاره من لسانه! وأذكر في هذا المقام حادثة مضحكة. ففي ذلك اليوم من أيام الرياض الحارة جداً كنا نجتمع في غرفة أحمد وكان الموضوع المطروح للنقاش عن الشعر العربي، كنا نتناقش فهذا يقول بيتاً لفلان وذلك يرد عليه بغيره وثالثنا يخرج عن قاعدة سابقيه ويأتي ببيتٍ من الشعر الحديث، نعم فقد كان لكل واحد شاعره المفضل الذي يحبه ويعشق قصائده ويدافع عنه، فقد كنت ومازلت أعشق أبا نواس ذلك الشاعر الشهواني العابث الذي وبعد توبته عن قصائده الشهوانية وخروجه من السجن كتب ملاحم عملاقة في الزهد والورع وفي الحب العذري والفلسفة

مالي وللناس كم يلحونني سفهاً

ديني لنفسي ودين الناسِ للناسِ

.. وكان أحمد يعشق أبا الطيب المتنبي بفخره بنفسه ومدحه لسيف الدولة الحمداني، ومن منا لا يعشق المتنبي عملاق الشعراء! وكان صديقي دائماً ما يردد مقولة: (لو ساعد الزمان المتنبي لأصبح ملكاً متوجاً!!!) وكنت أنا وشاهين نرد عليه بكلمات يسيرة وبصوت واحد قائلين: (يا أحمد كلمة "لو" تفتح عمل الشيطان ولا تقدم ولا تؤخر) نقول كذلك والتبجح يملأ وجهينا..أما شاهين فكان شاذاً عنا فهو متيم بشاعر يعتبر من الشعراء الحديثين فهو عاشق لشعر وفلسفة جبران خليل جبران ودائماً ما يردد بيتاً من الشعر لجبران هو بداية قصيدته العملاقة "المواكب" (2).

الخير في الناس مصنوع إذا جبروا

والشر في الناس لا يفنى وإن قبروا

"آهٍ منك يا جبران" كانت تلكم الكلمات دائماً ما يرددها شاهين بعد أن يلقي ذلك البيت الجبراني!

.. قبل أن أعود إلى الحادثة المضحكة، اعذروني إخواني عن شطحاتي في الكتابة وعدم التقيد و الالتزام بأصول وقواعد الكتابة الأدبية والتسلسل الروائي، فالكتابة عن أصدقائي تجعلني أرتجف واهتز والدمع منسكب ويختل توازن القلم فالعواطف محفورة في أعمق خلجات روحي والذكريات وآهٍ من تلكم الذكريات تجعلني أنساق بلا قصد مني خلف تلك العواطف التي تنتظر بعد سنوات طوال قرار الإفراج عنها، وها أنذا وفي هذه الصفحات اليسيرة أحاول أن أعتق عواطفي وأعلن حريتها..

ذكريات الأمس الماضية..

أبحرت بي فوق الأمواج العاتية..

.. أعود إلى الحادثة المضحكة فبعد أن انتهت المناقشة في ذلك اليوم أخذنا جهاز التسجيل لكي نستمع إلى ما قلناه عن الشعر العربي وشعرائه.. وكان الشيء المضحك في ذلك الزمان المحزن لي الآن هو أن أحمد المتيم والعاشق للمتنبي ومع انسجامه واندماجه كان يقول بصوت رنان:

"المتخبي! المتخبي! إني أعشقك يا أيها المتنبي..."

كان يقولها بدل أن يقول "المتنبي". كانت تلك الحادثة من ضمن العشرات من الحوادث المضحكة التي تزيد من حلاوة اللقاء وتجعل السعادة مرسومة على أوجهنا التي تمر الآن أمام عيني كشريط بحركة سريعة، تمر تلك الذكريات التي حفرت في داخل ذاتي أعمق معاني الحزن، الحزن أتعلم يا من تقرأ معنى الحزن!!

الصفحات