أنت هنا

قراءة كتاب زوال كولونيل

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
زوال كولونيل

زوال كولونيل

ربما كانت العشرين من بقايا السجائر التي يطفئها منذ بداية الليل إلى الآن. أحس بالاختناق وأن لسانه وفمه من كثرة السجائر التي دخنها يفقدان حس الذوق فيهما. أنظر كم من الماء على الوجه الزجاجي للنافذة. وأي صمت!

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
الصفحة رقم: 1

أولاً يجبُ أن أُطفئَ سيجارتي
ربَّما كانت العشرين من بقايا السّجائر التي يطفئُها منذُ بداية الليل إلى الآن. أحسَّ بالاختناق وأنَّ لسانهُ وفمهُ من كثرةِ السجائرِ التي دخّنها يفقدانِ حسَّ الذّوقِ فيهما. أُنظُرْ كم من الماءِ على الوجهِ الزجاجيِّ للنّافذة. وأيُّ صمت! صوتُ مطرقة، وبعد كلِّ طرقةٍ منها يحلُّ السُّكونُ وعويلُ المطر. كان المطرُ وصوتُ المطرِ على أسطُحِ التوتياءِ والزنجارِ القديمةِ دائمَ العزف، وما سواهُ صامت. أستطيعُ أن أتذكَّرَ من أيام حياتي غروبَ الشّمسِ على أسطُحِ التوتياءِ والزنجار مرَّةً واحدةً فقط.
في الغروب، بعد المطر، وقبلَ أن تختفيَ الشَّمسُ بِلحظةٍ ترى لوناً آخرَ لِأسطُحِ الزنجارِ يبعثُ الحُزنَ الجميلَ في النفوس، أيّامَ كانتِ الشَّعَراتُ البيضُ تلاقي شقيقاتِها حديثاً. في تلكَ الأيّامِ كان يسيرُ واثِقَ الخُطى يتبخترُ ويُحِسُّ بالأرضِ من تحتِ أقدامِه. لم يكُنْ مجهولاً منسيّاً، ولم يكُنْ وجهُهُ مُعتَصَراً، ولم تكُنْ هذِهِ الثَّنايا والتَّجاعيدُ من الحيرَةِ والهَولِ قد رَسَمَتْ أخاديدَها على جبينِه: مع وجودِ هؤلاءِ السَّادة.... يجِبُ أنْ أُطفئَ ما بقي من سيجارتي أوَّلاً ثُمَّ أنهضُ والمطرُ يتساقطُ على رأسي وآتي خلفَ الباب. اِقرعوا الباب، اِقرعوا الباب. أيَّاً تكونون! لقد مرَّت سنواتٌ ولم أسمعْ خبراً جميلاً والآنَ في هذا الوقتِ لستُ بمُنتظِرٍ لِخَبَرٍ سعيد. لنَرَ ما إذا ما كانت هذهِ السَّاعةُ القديمةُ دقيقةً، يجِبُ أن تكونَ السَّاعةُ في حدودِ الثّالثةِ والنِّصْفِ بعدَ مُنتَصَفِ اللّيل. وانظُرْ كم من الماءِ على الوجهِ الزُّجاجيِّ للنَّافِذة... اِقرعِ البابَ، اقرَعِ البابَ يا عزيزي. دُقَّ بالقدرِ الّذي يوقِظُ الموتى من نومتِهِم. أمّا أنا فلن أخطوَ من الإيوانِ إلى باحةِ الدَّارِ قبلَ أن ألبَسَ حِذائي وأضَعَ معطفيَ المطريَّ فوقَ رأسي. حَسَناً، أنت ترى بِنفسِك أنَّ المَطَرَ يسقُطُ إلى الأسفل كأنابيب طويلةٍ مضيئة. طريّاً... يجبُ أن أُشعِلَ المِصباحَ الكهربائيَّ تحتَ سقفِ الإيوانِ ثُمَّ أنزِلُ على الدَّرَج. أتُريدُ أن تزِلَّ قَدَمي في الظَّلامِ وأسقُطَ وتذهَبَ كتِفي؟... أنا قادِم. اللهُ وحدَهُ جعل مصباحَ أمير لا يُضيءُ في القبو، أنا أستطيعُ أن أحاوِلَ ألاّ أكونَ مُتحيِّراً وأن لا أكونَ مُتعجِّباً مُضطرِباً وأنا أفتحُ الباب. أعلمُ، أعلمُ هذا، لا يجِبُ أن ينتفِخَ ما تحتَ ذقني وجفنايَ منَ الارتِعاد، بِأيِّ وجهٍ لا يجِب! لكِنَّ هذا الجفنَ الأيسَرَ ليسَ أمرُهُ في يدي ولا باختياري، فبِمُجَرَّدِ التَّركيزِ على شيءٍ فإنَّ جفنيَ الأيسَرَ يشرعُ منْ نفسِهِ بالارتعاش. فقط جفني الأيسر....
ـ نعم يا سيّد... نعم... أنا آتٍ انتظِرْ قليلاً.
سَلْ أيَّ شخصٍ يُدَقُّ على بابِهِ في مِثلٍ هذا الوقتِ غيرِ المُناسِبِ ماذا كانَ يفعل؟ ليسَ شيئاً يُتَصَوَّرُ أو يُجْرَأُ على التّفكيرِ في مِثلِه، لا. مِثلُ هذا الحالِ لم يحصلْ أصلاً. رُبَّما لم يجِدْ مِثلُ هذا التَّفكيرُ طريقاً إلى لِسانِه لِأنَّهُ كانَ مُطمئنّاً إلى أنَّهُ لا وجودَ للاختِلافِ في أصْلِ القضيّة. فمِنَ المفهومِ بالتَّجرِبَةِ أنَّهُ لو كانَ أرادَ أن يبقى بابُ البيتِ مُغلقاً، فلن يقومَ شخصٌ بإصدارِ مِثلِ هذا الصَّوتِ بِمطرَقَتِهِ بِهذِهِ الصوّرة.
ومَعَ وجودِ العلاجِ لا أملكُ إلاّ أنْ آخُذَ نَفَسَاً جديداً. طبعاً لا أتخيّلُ أنْ أفسَحَ المجالَ لِنفسي بالتَّفكيرِ في عدَدِ السّجائرِ الَّتي أُدخِّنُها في اللّيلِ والنَّهار، وقد أفلتُّ في لحظةٍ غيرِ متوازِنةٍ من التّصاميمِ الآنية غيرِ العمليّةِ مئةً في المئة. أمّا أن أكونَ عِندَ فتْحِ البابِ مالِكاً لِأعصابي ولا يُعبّرَ التِهابُ أنفاسيَ المُضطرِبَةِ عن خوفي، فلا حيلَةَ لي إلاّ بِأخْذِ نَفَسٍ جديدٍ حيناً بعدَ حينٍ إلى أن يبرُدَ دمي تماماً فأفتَحَ الباب.
ـ جناب الكولونيل؟
ـ نعم... يا سيّد.
ـ أنتُم أنفُسُكُم؟ جناب الكولونيل؟
ـ نعم يا سيّد، أتسألُ من عندي!
ـ فلِماذا لا تفتحونَ الباب؟
ـ الآن، الآن سوف أفتحُه، أخيراً...أنا أبحثُ عنِ المِفتاح.

الصفحات