أنت هنا

قراءة كتاب أشباح الجحيم

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
أشباح الجحيم

أشباح الجحيم

رواية "أشباح الجحيم" للروائي الجزائري المعروف بياسمينة خضرا، ترجمها إلى العربية د. محمد ساري، وصدرت عن دار الفارابي عام 2007:

تقييمك:
3
Average: 3 (1 vote)
المؤلف:
الصفحة رقم: 1

عثرت بيروت على ليلتها وحجبت بها وجهها. فإذا كانت تظاهرات الأمس لم توقظها، فإنَّ ذلك هو الدليل على أنها تنام ماشية. ففي تقاليد الأسلاف، علينا أن لا نزعج مُرَوْبِصاً، حتى وإن كان يسعى إلى حتفه.
تخيّلتها مختلفة، عربية ومعتزة بعروبتها. فكنت مخطئاً. فهي ليست إلّا مدينة يتعذر تحديد معالمها؛ إنها أقرب إلى استيهاماتها منها إلى تاريخها، مخاتلة ومتقلبة، مخيِّبة للأمل كمزحة باردة. فإذا كان أولياؤها القدّيسون قد تنكروا لها، وسلّموها هكذا إلى صدمة الحروب وهشاشة المستقبل، فلربّما حصل ذلك بسبب عنادها وإرادتها في التشبّه بمدن الأعداء. عاشت الكابوس، في حجمه الطبيعي - فيما نفعها؟... فكلما زاد تأملي لها، كلما قلّت قدرتي على متابعتها. إذ إنّ في مرحها توجد وقاحة لا تستقيم. إن هذه المدينة تكذب مثلما تتنفس. إن مظهرها المتأثر ليس إلّا فخاً للسذَّج والهيبة التي تسنَد إليها لا تتناسب مع مزاجها؛ كما لو أننا غطينا ذبولاً شنيعاً بالحرير الناعم. فلكل يوم حزنه، توقِّع بلا اقتناع. بالأمس، صرخت غضبها عبر شوارعها ذات الواجهات المحصَّنة. وهذا المساء، ستُمتِّع نفسها. من جديد، ستكون لياليها ناجحة بامتياز. ها قد بدأت الأضواء ومصابيح النيون تعرض مشاهدها. في تزعْرُج المصابيح، تحسب السيارات الفاخرة نفسها دقات عبقرية. إنه السبت، وهي تستعد في هذه الليلة لفقس بيضها. فالناس سينفجرون إلى غاية الفجر، في مبالغة تجعلهم في منأى عن أجراس الأحد.
وصلت إلى بيروت منذ ثلاثة أسابيع، أكثر من عام بعد اغتيال الوزير الأول رفيق الحريري حيث أدركت سوء نيتها بمجرّد أن حطني التاكسي على الرصيف. لم يكن حدادها إلّا واجهة، وذاكرتها مصفاة قديمة متعفنة؛ لهذا كرهتها منذ البداية.
في الصباح، انتابني اشمئزاز أصمّ حينما تعرَّفت على ضوضاء سوقها. في المساء، اختمر بداخلي الغضب نفسه حينما جاء المحتفلون يبتهجون داخل سياراتهم المشكلة تشكيلاً غريباً، وأطلقوا العنان لذبذبات أجهزة السْتيريو. ماذا يريدون أن يثبتوا؟ بأنهم يحتفلون برغم الاعتداءات؟ بأن الحياة مستمرة برغم الورطات؟
لا أفهم شيئا لهرجهم ومرجهم؟
إنني بدوي، ولدت بكَفْر كرَم، وهي قرية نائية في وسط صحراء العراق؛ إنها كتومة إلى حدّ أنها غالباً ما تذوب في السراب ولا تظهر إلّا عند الغروب. إن المدن الكبيرة تثير في نفسي دائماً ريباً عميقاً. ولكن تقلبات بيروت تدوّخني. هنا، كلما وضعنا أصبعاً على شيء ما، كلما ضعفت ثقتنا بأننا حقاً نلمس شيئاً بعينه. بيروت قضية مسفسفة؛ تضحيتها مصطنعة، دموعها دموع تماسيح - أمقتها من كل قواي، بسبب قفزات الكبرياء التي ليست جريئة بما فيه الكفاية؛ ولا تواصل لديها في الأفكار، بسبب وضع إستها بين كرسيين، تارة عربية حينما تكون الصناديق فارغة، وتارة غربية حينما تكون المؤامرات عمليات مربحة. إن ما تقدسه في الصباح، تتنكر له في المساء؛ إن ما تطالب به في الساحة العمومية، تتبرأ منه في الشاطئ، وتسعى إلى حتفها مثل هاربة ساخطة تظن أنها ستجد بعيداً ما هو موجود عند قدميها...
- من المفروض أنك في الخارج، تنشِّط ساقيك وذهنك.
كان الدكتور جلال واقفاً خلفي، أنفه يكاد يلامس رقبتي.
منذ متى كان يراقبني وأنا أناجي نفسي؟ لم أنتبه لوصوله، لقد أغاظني أن أجده جاثماً فوق أفكاري مثل سباع الطير.
أدرك الانزعاج الذي أثاره في نفسي، فأراني الشارع بذقنه.
- إنها أمسية رائعة. الجوّ جميل، المقاهي معبأة، الشوارع غاصة بالناس. كان من المفروض أن تمتّع نفسك عوض البقاء هنا لاجترار همومك.
- ليست لديّ هموم.
- ماذا تفعل هنا إذن؟
- لا أحبّ الحشود، وأمقت هذه المدينة.
رمى الدكتور رأسه إلى الخلف، كمن وقع تحت تأثير لكمة. قطّب حاجبيه.
- إنك تخطئ في تحديد عدوّك، أيها الشاب. لا يمكن أن نكره بيروت.
- أنا، أمقتها.

الصفحات