أنت هنا

قراءة كتاب مأزق الدولة بين الإسلاميين والليبراليين

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
مأزق الدولة بين الإسلاميين والليبراليين

مأزق الدولة بين الإسلاميين والليبراليين

يأتي هذا الكتاب (مأزق الدولة بين الإسلاميين والليبراليين) الذي أعده وحرره الكاتب والباحث د.

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
دار النشر: مكتبة مدبولي
الصفحة رقم: 5

لكن رضوان السيد لاحظ أمرين أثنين: الأول صراع طبقة العلماء والفقهاء مع السلطة السياسية طوال القرن الثاني الهجري على المرجعية في الدين، وتجلى الصراع الثاني مع المحدثين أو أهل الحديث والسنة في (المحنة)، أي الخلاف بين المأمون العباسي من جهة، وأحمد بن حنبل وزملائه من جهة ثانية، حول من يتولى تحديد طبيعة التعامل مع القرآن، وهل هو الخليفة (الذي قال: إن القرآن مخلوق) أم أهل السنة والجماعة (أصحاب الحديث) الذين قالوا: إن القرآن كلام الله غير مخلوق! ومما له دلالته أن أهل السنة هؤلاء كانوا يقولون بوجوب الطاعة للسلطان في الشأن السياسي، ولا يرون طاعته في الشأن الديني (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق).

إن وقوف الفقهاء في وجه الصلاحيات التشريعية للسلطة، ووقوف المحدثين في وجه المرجعية الدينية للسلطة السياسية، هذان الموقفان يتصل أحدهما بالآخر، لكن موقف المحدثين كان أكثر جذرية، وأوضح لجهة التمييز بين المجالين الديني والسياسي. وقد كان من نتائج هذا الصراع، أن استقل المجال الديني عن المجال السياسي بعد منتصف القرن الثالث الهجري، فتولى العلماء (ورثة الأنبياء) الشأن الديني، وانفردت السلطة بالشأن السياسي، وبقيت المرجعية العليا للإسلام، كما بقيت المرجعية القانونية والمؤسسات للسلطة السياسية، كما في كل دولة.

وبالعودة إلى الدولة أو الإمامة ذات الطبيعة الدينية نجد أن المقايسة بين علاقة الدين (الزرادشتي) بالدولـة وعلاقة الإسلام بالدولة، هو الذي أفضى إلى تلك الصياغة (حراسة الدين وسياسة الدنيا)، وهي صياغة يراها رضوان السيد "وهمية".

استمرت الخلافة حتى مطلع القرن الرابع الهجري، إلى أن فوجئ الفقهاء بظهور الدولة السلطانية، وهذه الظاهرة الجديدة، التي بلغت ذِروتها عام 333هـ/334هـ بدخول البويهيين إلى بغداد، دفعت الفقهاء وكتاب الآداب السلطانية، والفلاسفة وغيرهم إلى كتابة قراءات لأوضاع الخلافة فظهرت ثلاثة كتب في "الأحكام السلطانية" ما بين 440هـ و470هـ: كتاب الماوردي، وكتاب أبي يعلى الحنبلي، وكتاب إمام الحرمين الجويني. أما الماوردي وأبو يعلى فيعترفان بالتغير وبالوقائع الجديدة، ويعتبران أن الحل المؤقت الذي جرى التوصل إليه (أن لا يباشر الخليفة الأمور بنفسه، بل من خلال تفويض أمير الاستيلاء) هو الوحيد الممكن والمعقول، لأنه يحافظ على وحدة الدولة (لا على وحدة السلطة)، ويترك الأمل والباب مفتوحًا لتصحيح الأوضاع باتجاه توحد السلطة (الدستورية) والقوة من جديد. لكن الجويني يختلف معهما، بل ويهاجم معاصرَه الماوردي دون أن يسميه. فالخليفة العباسي صار عبئًا ولم يعد ميزة، ولا حاجة لهذه الازدواجية السلطوية، ولا حاجة أيضًا لبقاء الخليفة لسبب ديني، فالشأن الديني يتولاه الفقهاء والعلماء. أما السياسة (تدبير الشأن الداخلي)، والشوكة (الجهاد والدفاع عن دار الإسلام)، فيتولاها السلطان، سواء أسميناه خليفة أم لا.

لكن الاتجاه التقليدي المؤسسي هو الذي انتصر في الظاهر، فقد بقي الخليفة، وحَكَم السلاطين، وظلوا يطلبون التكليف منه مهما بعدت أقطارهم.

واستنادا إلى هذا الإدراك للمتغيرات، تشبث الفقهاء بالأمر الديني والشعائري وما يتصل بهما، ولجؤوا في المجال العام إلى تطوير ما اعتبروه "سياسة شرعية" للخروج من الضروري والطارئ إلى الصالح والشرعي. فجرى - بعد انتصار القوة والشوكة في الدولة - الانتقال من "الأحكام السلطانية" إلى "السياسة الشرعية"، أي أن المصلحة صارت مصدرًا شرعيًّا، كان على الفقهاء الانصراف إلى تقنينه وضبطه بالقدر الذي تسمح به السلطة والظروف.

فاضطر الفقهاء إذن لشرعنة إمارة الاستيلاء وسلطنة التغلب، حفـظًا للوحدة، ودرءًا للانقسام، واعتبروا أنه ما دامت الخلافة قائمة فإن المشروعية التأسيسية متحققة، والخلل إنما داخل شرعية المصالح؛ وهذا يمكن تلافيه بالإصرار على العدالة. وهذه النزعة يجعلها د. القرضاوي معبِّرًا عن واقعية الفقه الإسلامي، وأنه لا يعيش في الهواء بل في الواقع ويتفاعل معه.

وبقي الأمر على هذا الحال حتى مشارف العصور الحديثة، إذ أُعيد القول في الفقه والفكر السياسيين، مع صدمة الغرب وظهور الدول الحديثة، ثم مع سقوط الخلافة الإسلامية سنة 1924م، فقد طوَّر الشيخ محمد عبده أُطروحة الدولة المدنية في الإسلام في سياق الجدال مع فرح أنطون حول العلمانية، ثم تأسَّست الحركات الإسلامية العاملة لاستعادة الدولة الإسلامية التاريخية، والتي تطورت لديها في خمسينيات وستينيات القرن العشرين مقولةُ (الدولة الإسلامية) التي تكتسبُ اسمَها هذا من (تطبيق الشريعة)، في مقابل تيارين آخرين، يرى أحدهما ضرورة إعادة الخلافة، ويرى الآخر ضرورة القول بالعلمانية. والصراع إنما قام ويقوم بين هذه التوجهات الثلاثة.

لكن أنور أبو طه يركز تحليله على دولة الإخوان المسلمين تحديدًا؛ لكونها كبرى الحركات الإسلامية، وهي الحاضرة بقوة في ساحة الفكر والعمل السياسي، فيرى أن ولادة جماعة الإخوان المسلمين كان مبعث ظهورها أنها ردّ فعل على غياب النظام السياسي الإسلامي، فكانت تتويجًا عمليًّا ذا مَنْحى نضالي لدفاعات الفكر الإسلامي منذ عصر النهضة ضد الفكر "التغريبي". ويقرر أن حسن البنا لم يكن امتداداً خالصًا للاتجاه السلفي التقليدي لعصر النهضة ممثَّلاً بمحمد رشيد رضا الداعي إلى نظام الخلافة، فالبنّا أضاف تصوّراً جديداً أَدخل العقلَ الإسلامي في مساحات التفكُّر الفعَّال، كما أَدخل تعديلاً مهمًّا في مفهوم "الجماعة المسلمة" التي عصفت بها التحولات في دول ما بعد الاستقلال، وتحديداً مفارقات التفارق والتحوُّل بين مفهومي "المجتمع الإسلامي"، و"الجماعة المسلمة".

الفكرة المركزية التي انطلق منها البنا –كما هو معروف- هي أن الإسلام نظام شامل، دين ودولة، وانطلاقاً من شمولية الإسلام اعتبر البنّا أن علاقة الدين بالسياسة هي بمنزلة "الأصل الأساسي" الذي تمَّ تضييعه، بل إنه يقفز قفزة نوعية في النظر إلى مكانة الحكم في الإسلام فيقول: «والحكم معدود في كتبنا الفقهية من العقائد والأصول، لا من الفقهيات والفروع، فالإسلام حكم وتنفيذ، كما هو تشريع وتعليم، كما هو قانون وقضاء، لا ينفك واحد منها عن الآخر». وهذا النص – بحسب أبو طه – يُعتبر تأسيسًا أوليًّا لقداسة السلطة، فهو قد وضع بذور فكرة "الحاكمية" التي تبنّتها كافة تيارات وجماعات السلفيّة الحركية لاحقاً، التي اعتبرت أن الدولة الإسلامية مسألة عَقَدِيّة من مسائل أصول الدين، ولذلك نرى الخطاب الإسلامي السياسي الحركي أسبغ طابعًا قدسيًّا على تلك العلاقة بين الدولة والدين، مُشابِهًا الموقف الفقهي الشيعي في مسألة الإمامة التي تتحول إلى أصل من أصول الاعتقاد!.

الصفحات