أنت هنا

قراءة كتاب مأزق الدولة بين الإسلاميين والليبراليين

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
مأزق الدولة بين الإسلاميين والليبراليين

مأزق الدولة بين الإسلاميين والليبراليين

يأتي هذا الكتاب (مأزق الدولة بين الإسلاميين والليبراليين) الذي أعده وحرره الكاتب والباحث د.

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
دار النشر: مكتبة مدبولي
الصفحة رقم: 8

-2-

من هنا يُطلق مصطلح دولة في الواقع على نماذج لا حصر لها من الدول، كاملة التكوين أو مُنجزة، وناقصة التكوين، او غير مستكملة لشروطها، بل ومجهضة كالمولود السقط أو الطرح. ويطلق كذلك على أصناف من الدول ذات أشكال من التنظيم للسلطة العامة، وللمجتمع ككل، ووظائف عسكرية أو اقتصادية أو ثقافية واجتماعية، وغايات يمكن أن تتباين من النقيض إلى النقيض. ونخلط غالبا - في تصوراتنا المبسطة - بين الدولة بالمعنى الذي كان سائدا في التاريخ القديم (كالدول والممالك القديمة) والذي ساد في القرون الوسطى وأطلقت الأدبيات التاريخية عليه اسم الامبرطورية أو الخلافة أو السلطنة، وذاك الذي تسميه الأدبيات الحديثة بالدولة وتعني به الدولةَ الأمة، أي نموذجًا خاصًّا من الدول لا تستكمل شروطه وجود سلطة مركزية سيدة تخضع جماعة من الناس لسلطتها بأي وسيلة كانت وعلى رقعة محددة من الأرض، وإنما نوع من الإدارة السياسية المركزية المرتبطة بمشاركة المجتمع نفسه وتحت إشرافه وسيطرته الدائمة، وهذا ما يفسر نزوع هذا الصنف من الدول إلى تثمين الأصول الإجرائية الديمقراطية، بل والتماهي معها.
لذلك، إذا لم نشأ أن نناقش في الفراغ، لا بد أن نميز - عند النقاش في موضوع الدولة - النموذج الذي نتحدث عنه، وماذا نقصد بالدولة. فالاسلامي المعاصر عندما يتحدث عن دولة يقصد في الواقع ما تسميه الأدبيات الفقهية الاسلامية الكلاسيكة الإمامة، وهي تُعنى بتنصيب قيادة الجماعة المسلمة وترتيب السلطات داخل هذه القيادة، وتعيين حقوق القادة على المؤمنين وحقوق المؤمنين على القادة. وليس لهذه الدولة المجسِّدة لنظرية الإمامة أيُّ علاقة - في الواقع - بالدولة التي يتحدث عنها الليبرالي أو المتأثر بالفكر الليبرالي في عصرنا. فهو يعني بها الدولة الحديثة بما تمثله من ارتباط وثيق بين السلطة العامة المنظِّمة للمجتمع ككل وهذا المجتمع نفسه، أو ما تسميه النظرية الحديثة الدولة الأمة التي تستمد السلطة المركزية سيادتها من الشعب ولا تستمر إلا بفضل الشرعية التي تؤمنها لها الانتخابات أو الاستشارات الدورية. وبمقدار ما تجسد الدولة هنا إرادة المجتمع، وتعبر عن خياراته الممثلة في الأغلبية، فهي تنظر إلى نفسها على أنها دولة المجتمع، والمسؤولة الأولى عن تنظيم شؤونه وضمان حقوقه، وتحقيق غاياته لا غايات الدين أو الغايات التي ينشدها الدين أو الهيئة الدينية، ولا غايات النخبة الارستقراطية أو عصبية القبيلة أو الطائفة الحاكمة2.
أما بالنسبة لأصحاب النظرية الماركسية فليست الدولة التي يتحدثون عنها غالبا سوى الأداة المنفصلة عن المجتمع والقائمة فوقه، التي تستخدمها الطبقة المسيطرة لإخضاع الطبقات الدنيا. وهي بالتالي التعبير الساطع عن الاستلاب السياسي الذي تعيشه المجتمعات ما قبل الشيوعية، الناجم هو نفسه عن الانقسام الطبقي الذي يمثل البنية الأساسية للمجتمعات حتى وقتنا الراهن. والسياسة ليست في هذا المنظور شيئا آخر سوى تحقيق الدولة لوظيفتها، أي عمل الدولة من أجل إخضاع الطبقات المنتجة وتكريس هذا الخضوع بالسيف وبالايديولوجية الهادفة إلى تزييف الوعي. ولذلك ارتبط التحرر الانساني - في نظر الماركسيين - بتلاشي الدولة أو انطفائها بموازاة اختفاء الانقسام الطبقي مع اكتمال نموذج المجتمع الشيوعي الخالي من الطبقات. وقد عبر ماركس عن اختفاء السياسة والدولة المنتجة لها والمنظمة لممارستها - من دون أن يعني ذلك غياب وظيفة التنظيم والإدارة التي لا وجود لمجتمع من دونهما - بجملة مشهورة يقول فيها: إن نهاية حقبة الانقسام الطبقي داخل المجتمعات سوف تشهد ولادة تنظيم اجتماعي تحلّ فيه إدارة الأشياء محل حكم الأشخاص. فالإدارة ترتبط بتنظيم شؤون المجتمعات المادية أما الحكومة فهي تعمل على إعادة إنتاج انقساماتهم الطبقية، أي سيطرة طبقة على طبقة أخرى، من خلال تنظيمات تتجاوز الأشياء وتدخل في شؤون الأفراد والأشخاص العيانيين3.
والنتيجة التي نريد أن نصل إليها من استعراض بعض محمولات مفهوم الدولة، وهي تتجاوز بكثير ما ذكرنا، حتى لَنَكاد نعتبر أن لكل دولة حقيقتها وتجربتها الخاصة التي تميزها عن غيرها، هي أن ما يجمع بينها أو أن العنصر الوحيد المشترك الذي يبرر الحديث عن دولة، مهما كانت، قديمة أو حديثة، كاملة أم ناقصة، مركزية أم طرفية، هو وجود سلطة مركزية تعنى بتنظيم المجتمع الكلي وتتمتع هي نفسها بنصيب ما، كبير أو صغير، من التنظيم الداخلي، كما تتمتع بدرجة من السيادة، أي من هامش يسمح لها باتخاذ قرار مستقل في قسم كبير من الشؤون العامة الخاصة بالمجتمع الذي تسيطر عليه أو تحكمه، وليس بالضرورة السيادة الكاملة كما تؤكد عليها النظرية الحديثة، وتحظى أيضا بقسط من القبول العام أو الشرعية الذي لا بد منه لضمان حد أدنى من الديمومة التاريخية.
لكن حتى على هذا المستوى، هناك من بين علماء الاجتماع من يرفض الربط بين السياسة ووجود الدولة. وهذا ما سعى إلى إبرازه بيير كلاستر في كتابه عن الاسكيمو حيث لا يمنع غياب الدولة - من حيث هي سلطة مركزية وتراتب للسلطات - وجود سياسة، بمعنى تنظيم المجتمع شؤونه بصورة كلية4. وهناك أيضا من يعتقد أن من الممكن تجاوز الدولة الراهنة تماما واستبدالها بوكالات خاصة تقدم خدماتها للأفراد، تماما كما يحصل في الخدمات والمنتجات الأخرى التي يتعامل بها السوق. فهي ليست - كما يرى ديفيد فريدمان - ضرورية من أجل قيام مجتمعات إنسانية منظمة ومتسقة ومنتجة. ومن المؤكد أن فريدمان هذا يشارك أطروحات اليمين النيوليبرالي مع دفع أطروحاته إلى مداه الأقصى، أعني تلك الاطروحات الجديدة التي تنزع إلى تجريد الدولة من وظائفها الاجتماعية والاقتصادية والتربوية، وتعميم علاقات السوق على جميع أنواع الخدمات من قضاء وبريد وشرطة وأمن إلخ5.
والقصد أننا عندما نتحدث عن الدولة ينبغي أن نبين عن أي نموذج نحن نتحدث، عن الدولة المدنية، أم الدولة الامبرطورية أم الدولة السلطنة أم الدولة الحديثة التي نطلق عليها اسم الدولة الأمة نظرا لكونها توحد في مفهومها بين السلطة العمومية والمجتمع السياسي بوصفه مكوَّنًا من أفراد مواطنين أحرار يشاركون فرديا في ممارسة السلطة وتكوين السياسة، ولا تكون الدولة التي تجمع فيما بينهم ذات سيادة أو سيدة إلا بمقدار ما هي تعبير عن سيادة كل واحد منهم.

الصفحات