أنت هنا

قراءة كتاب ريام وكفى

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
ريام وكفى

ريام وكفى

كتاب " ريام وكفى " ، تأليف هدية حسين ، والذي صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 2014 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
المؤلف:
الصفحة رقم: 1

احتشدت السماء بنجوم لم أر مثل عددها وتوهجها من قبل، كأنها خرجت في مهرجان تحتفل بألقها أو بمناسبة ذكرى عزيزة عليها، منعشاً كان الهواء وأنا أتمدد على سرير حديدي فوق سطح بيتنا القديم في ليلة من ليالي نيسان وأستحم بالأحلام باحثة عن نجمي وسط هذا الكم الهائل من السطوع·· يقولون إن لكل إنسان نجماً في السماء يُحدد خطواته ويرعاه·· وفي كل ليلة أتساءل: أين نجمي؟ على يمين القمر المشع أم ذاك الذي يومض على يساره ويتحيّن الفرصة لكي يزيحه ويسطع بنوره؟ والنجمُ مسار فلماذا ضللت مساري، وكيف ركضت بي السنين على حصان أهوج تدفعه ريح مجنونة حتى ليتعذّرعليّ لملمة الوقت وأنا أغذ السير إلى الصحراء الموحشة من العمر؟ وحدي، يمر بي الزمن ويعبرني تاركاً لي فسحة صغيرة في كونه الشاسع الملغّز، فسحة أحاول جاهدة أن أوسعها برغم أنها لا تسعفني بالقدر الذي تضيّق علي، يتخلخل زمني من خلالها بين شد وجذب، أذهب إلى النوم وأتذكر أنني قبل قليل كنت قد نمت، وأصحو فأتساءل كيف مرّ الوقت بهذه السرعة العجيبة، ألستُ قد صحوت قبل ساعتين أو ثلاث؟ يأتي المساء بلمحة ثم ينبثق الصباح بسرعة البرق، كيف تداخلت الساعات وانكمشت إلى هذا الحد؟ هل انفلت الزمن من عجلته التي كانت تسير على مهل؟ وأين ذهب ذاك الزمن الذي كان يتمطى ويستطيل ويغرقني بالأحلام؟ كيف اجتازني بسرعة لم أنتبه إليها وتركني لزمن مرتبك؟ هل لي أن ألحق به وأستوقفه لأسأله: لماذا فعلت بي ذلك؟

وبين مساء يأتي سريعاً وصباح يحيرني انبثاقه، وقفت وتأملت ونظرت إلى الماضي، بدا الأمر أشبه بفيلم مُعد على عجل، ورأيتني هناك، إسمي منقوش بحروف بارزة على التايتل، بموسيقى مختلة السلالم·· هكذا رأيتني، بعد ماراثون طويل وصلت، كنتُ ألهث، أنفاسي تكاد تتقطع، تعثرتُ كثيراً وأنا أركض، سقطت وقمت أشد أزري وأركض ثانية على أرض مستوية، متعرجة، زلقة، رملية، حجرية مسننة·· لا لم أصل تماماً، مايزال أمامي طريق ليس بالطويل لكنه أيضاً ليس قصيراً، توقفت لآخذ استراحة ونظرت ورائي، لم يكن من أحد ينافسني، ولم يكن هناك جمهور يترقّب نتيجة من سيقف على منصة الفوز·· فلماذا كنت أركض إذن؟

حين نخرج إلى الدنيا من ظلمات كانت تسرّب لنا الدفء لا نفكر بالزمن، ربما راودتنا أحلام شفافة لكننا لم نعد نتذكرها ولا ندرك شكل رؤاها، النقطة التي انطلقنا منها كبداية لماراثون الحياة تغدو الان نائية جداً وضبابية ثم ننساها في خضم الركض المتواصل، نريد أن نصل قبل الآخرين، نركض ونلهث، ثم ما إن نصل حتى تكون سنوات العمر قد تبددت، وقد تتبدد قبل أن نصل، وربما يأتي الوصول في وقت لم نعد فيه نحلم بامتلاك شيء·

ولأن نجمي قد نأى واختفى أثره تاركاً لي حفنة من ذكريات لا فائدة منها الآن إلا لتزجية الوقت بين مهنة أتعبتني ووجوه ما تزال تلاحقني وتدور من حولي برغم اختفائها عن حياتي، ولأن جمرة الحب ذوت وشياطيني في مخابئها انزوت، لذا سأقول كل ما لدي على هذه الأوراق قبل أن يدركني الوقت وأنزوي، وقبل أن ينزع الزمان عن جسدي بقية البريق، أعرف بأن رأسي سيهدأ ذات يوم، ينفض الوجوه والتعب والخطايا والأفراح الصغيرة والمناكدات والصبوات والشهوات والأوجاع، يسّاقط الحب الذي كان وتخبو الأشواق وتتلاشى كأنها لم تكن، ستمضي الوساوس وسيخفت الصخب ويلوذ بالصمت تاركاً وراءه ما يشبه الرمل الذي ستذروه الرياح وترميه إلى شقوق الأرض·· لهذا كله، أريد أن أحرك المياه الراكدة في أعماقي قبل أن يجف نهري أو تأكل حوافه الأملاح مستفيدة من تلك اليوميات التي كنت أدونها وأنا في عشرينيات عمري، تفاصيل كثيرة كدت أنساها لولا تلك اليوميات، مهنتي لا تساعدني على البقاء طويلاً في هذه الحياة ولن أعيش بعد موتي سوى زمن عابر على أجساد النساء اللواتي يتخلصن من الثياب التي تصنعها يداي بعد أن يشعرن بالملل منها أو يتهرأ نسيجها، نعم أريد أن أكتب قبل أن يمحوني الزوال ··هل أنا في طريقي للزوال؟ هل أمضي إليه دون أن أترك ما يحمل شيئاً على الأرض يُخبر عني بأنني جئت إلى الدنيا وحملتُ اسمين لم يمنحاني حسن الطالع؟ وبأن ثمة نساء جاهدن لكي يمسكن بأطراف الخلود حتى وإن كان هذا الخلود حفنة أوراق لا أكثر؟ لعل أوراقي تبقيني بعد موتي، لعلّ أبنائي الذين لا أعرف متى سيجيؤون للدنيا يقرؤون ما أكتب، أو أن أحداً سيقرؤها ذات يوم ويتذكرني، أما الثياب والعباءات التي أخيطها والتي تكتسب روائحها من أجساد النساء فإنها تبلى بعد حين، ولذلك قلت لفاطمة وأنا أنهي آخر مرحلة من العباءة التي أعمل عليها منذ أسبوع: هذا يكفي، اعذريني لم أعد قادرة على العمل سآخذ استراحة، أنت أيضاً بحاجة إلى الراحة، يمكنك زيارة الأهل لكي تستعيدي نشاطك، سأعد الشاي ونشربه معاً ثم اذهبي للاستمتاع بإجازة، تعالي بعد أسبوعين وسنرى ماذا نفعل·· نظرتها لي كانت طويلة ومتأملة، هي تعرف بأنني قد أغير رأيي في أية لحظة وأعود للعمل فهو موردي الوحيد الذي أعيش منه، جلسنا في الصالة وشربنا الشاي مع قطع البسكويت وقبل أن تحمل فاطمة الصينية وتذهب إلى المطبخ سألتني: ماذا ستفعلين خلال الاستراحة التي ستمتد أسبوعين؟ قلت لها: سأكتب··تحوّل كل وجهها إلى علامة استفهام فقلت قبل أن تسأل ثانية: أحس برغبة لكتابة رواية عن حياتي·· ابتسمت واستفسرت: هل ستنشرينها؟ أجبت: لم أفكر بذلك الآن، عندما أنتهي منها سأعرف فيما إذا كانت تستحق النشر أم لا، إنها رغبة تراودني منذ فترة طويلة وبدأت تلح عليّ، خصوصاً وأن لي محاولات سابقة في الكتابة، لذلك سأمنح نفسي الفرصة في كتابة رواية، ولا أدري إذا ما نجحتُ في ذلك أم أخفقت·· ابتسمت وبرق في عينيها وميض وهي تقول: إذا نجح الأمر معك أتمنى أن تكتبي رواية عن حياتي·· آه كم تستحق حياتي أن تكون رواية مكتوبة·

حملت الصينية ومضت إلى المطبخ وبعد قليل عادت لتسأل: وعملنا هل سيتوقف مدة أسبوعين؟ قلت لها: نعم، مؤقتاً، أنت تعلمين حال السوق هذه الأيام·

ردت بالقول وما تزال على وجهها بقية استغراب: إذن سأذهب ولن أعود إلا بعد أسبوعين، وتكونين قد أكملت الرواية·

ضحكتُ من أعماق قلبي ثم قلت: الرواية لا تكتمل في أسبوعين، ربما ستستغرق سنة أو أكثر، فتحت عينيها دهشة وقالت: هل سيتوقف رزقنا كل هذه المدة؟ طمأنتها: كلا، لكن البداية تتطلب مني التفرغ واختبار قدرتي على الكتابة، وبعد ذلك سأكتب في الأوقات التي لا نعمل فيها··انفرجت أساريرها وودعتني، لكنني التقطت عبارة قالتها همساً ولم أعلق عليها: الله يشفيك·

أوصلتها إلى الباب الخارجي، أغلقته وعدتُ للصالة مسرعة كأنني أهرب من شيء يتبعني، وقفت عند النافذة ورحت أنظر إلى عريشة العنب، أتأمل العناقيد وهي تتدلى مثل ثريات، في بداية صيف يبدو أنه سيبكر بالحرارة، وأتأمل معها سنوات عمري وأنا أقف في منتصف المسافة بين الثلاثين والأربعين، مع كل الذكريات التي مرت بي، ومع أشباح الموتى من عائلتي، وأرى نفسي أقف على ضفة النهر القريب بانتظار ذلك الفتى الذي اسمه ريحان لنعبر في زورق يتهادى مع الأمواج ويمضي بنا إلى الضفة الأخرى، أو ندخل المقبرة الانكليزية ونتجول بين قبورها، ونتوقف مطولاً عند قبر المس بيل التي ربما تكون قد استمتعت بحكايات ريحان عنها وتمنت لو عادت إلى الحياة لتسمعنا حكايات أخر طواها الزمن·

سحبتني عناقيد العنب إليها مجدداً وتذكرت كيف كنا نتحلق حول أمي تحت عريشة عنب أخرى في المكان ذاته كانت مكتظة بعناقيدها، وقبل أن تختلط عليّ الذكريات وتشوشني هرعت إلى الأوراق التي أعددتها وبدأت أكتب كأنني كنت أنتظر هذه اللحظة طوال ما مر بعمري من سنين·

أنا كفى ياسين الفضلي كما قرر أبي أن يسميني في شهادة الميلاد لتكف أمي عن إنجاب المزيد من البنات، بينما يحلو لأمي أن تناديني باسم ريام، الاسم الذي أحبّته ولم يُعجب أبي وجدتي مسعودة فظل كل واحد منهما يناديني باسم كفى عناداً بأمي، أنا البنت الثالثة بعد هند الأكثر شبهاً بملامح أمي وتشبّهاً بسلوكها، بيضاء البشرة سوداء العينين ذات حدة في طبعها تنتابها من حين لآخر بسبب أو من دون سبب، وصابرين ذات المزاج الرائق والطبع المرح والضحكات الرنانة بشرتها بيضاء صافية وعيناها قهوائيتان غامقتان، وأنا النغمة النشاز بينهما، حنطية البشرة، سريعة الإثارة، بعينين ناعستين وماكرتين وبقامة متوسطة وجسد رشيق، وبسلوك حيّر أبي وأتعب أمي·

الصفحات