أنت هنا

قراءة كتاب محاضرات في مناهج البحث العلمي للدراسات الإنسانية

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
محاضرات في مناهج البحث العلمي للدراسات الإنسانية

محاضرات في مناهج البحث العلمي للدراسات الإنسانية

كتاب " محاضرات في مناهج البحث العلمي للدراسات الإنسانية " ، تأليف د. نبيهة صالح السامرائي ، والذي صدر عن دار الجنان عام 2013 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
الصفحة رقم: 3

أين تبدأ المعتقدات؟

مع استكشافنا لمعنى "أن نعرف" نقترب مع معنى المعرفة في أوجهها المختلفة.الآن نتقدم خطوة للأمام لاستكشاف معنى المعرفة الموضوعية (المتجردة)، والمقصود بها أن نحلل الظواهر كما هي، محتفظين بتحيزاتنا وآرائنا جانبا. وتلك طريقة مستنيرة للمعرفة والتقييم، وتجلب معها نوعا من السلطة: سلطة أن تقبل وترفض، تتبنى وتدحض، وأن تحتفظ بقدر من المسافة لترى الأشياء والظواهر أوضح وأدق— بل وربما في النهاية، سلطة تغيير ترتيب الأشياء والظواهر. ويصحب المعرفة دوما واجب المزيد من إعمال العقل وإلقاء الأسئلة ومناهضة فجوات الجهل لدينا. فالإلمام بمعرفة عن شيء يعني أنك قادر على استخدام المنطق في ملاحظته وتحليله.

وتختلف المعرفة عن المعتقدات. فالمعتقدات تشرح طريقة سير العالم من حولنا بأن تخلع عليه قدرات وصفات ومشاعر وعواطف؛ ومن ثم فإنها تقول بوجود خصائص أصيلة في الأشياء. مثلا، يمثل الرقم 13 للبعض نذير سوء. وتعتبر بعض الثقافات قوس قزح إشارة على حظ عاثر قريب، إذ تظن أن القوس سيف الرب. وفي ثقافات أخرى ينبئ قوس قزح بأماكن إخفاء الكنوز، ومن ثم فإنه فأل حسن.

وتتطلب المعتقدات قبولا والتزاما فوريا؛ إذ أنها تمد جذورا شديدة العمق في دواخلنا. فالمعتقد الديني يمثل في الأغلب محاولة شخصية، وحميمية، لاكتشاف الحقيقة (بمعناها الكبير). ومن ثم، تتطلب المعتقدات أن يؤخذ منظورها للحقيقة (شرحها للتاريخ والعالم الطبيعي من حولنا) بغير تبديل. أي أن المعرفة الدينية تتطلب قبول الوقائع والمقولات التي ربما يتعسر أو يستحيل إقامة الدليل على صحتها أو خطئها. فوجود الله، مثلا، ليس مما يبحثه العلم؛ وإنما هذا مجال المتعتقدات، حيث ليس ثمة سبيل عملي لإثبات أو نفي وجوده. فالديانات العظيمة التي شكلت وتشكل وجدان وتاريخ البشر عبر القرون – مثل اليهودية والمسيحية والإسلام والبوذية والهندوسية – هي المختصة ببحث مثل تلك الموضوعات، وليس العلم.

ما المعرفة الشائعة؟ وكيف تختلف عن المعرفة العلمية؟

نحتاج لكي "نعرف" أن نطرح الأسئلة، وأن نفكر بطريقة نقدية (فلا نأخذ الأمور على علاتها)، وأن تختبر الوقائع، والأشياء والأفكار.

لكن ثمة درجات متفاوتة من الأسئلة. ففي حياتنا اليومية، تزودنا الأشياء التي نتفاعل معها بخبرات فورية وملموسة. فحواسنا الأولية – من بصر ولمس وشم وتذوق وسمع – تمدنا تلقائياً، وبغير تفكير، بإجابات مباشرة ومفهومة ومتوقعة عن الواقع. تلك الإجابات، في الأغلب، انعكاس للثقافة والتقاليد الراسخة لدى كل جماعة بشرية. يطلق البعض على هذا النوع من الخبرة المعرفة الشائعة ، الحسية، الأولية، أو الفورية. فالتفسيرات التي تأتينا من تلك المعرفة مؤسسة على فرضيات فضفاضة، تأتي في الأغلب من الموروث الشفاهي. وغالبا، يتناقل هذا الموروث بغير تمحيص، ويتألف من تعميمات تبسيطية ومتعجلة. كما تنبني تلك المعرفة غالبا على ملاحظات بسيطة: فنقول مثلا بأن الشمس تشرق وتغرب؛ أو أننا نرى أن السماء سامقة بغير عمد. ومن ثم، فالمعرفة الشائعة تقف عند ملاحظة الأشياء والظواهر، ولا تسعى أو تأمل في تغييرها.

كيف ننشئ معارفنا الشائعة

تتكون معارفنا الشائعة من خلال ما نصادِف طوال حياتنا. وينتقل قسط كبير من تلك المعرفة من جيل للذي يلحقه بغير تطوير. وتنشأ المعرفة الشائعة من خلال تعاملاتنا اليومية مع بيئتنا، ومن الطريقة التي تُعرّف بها كل ثقافة الوجود أو الكون. ويتشارك في عملية الإنشاء هذه أسرنا، وأقاربنا، وأصدقائنا، وجيراننا، والقبيلة أو الجماعة التي ننتمي إليها. هذا المجتمع الإنساني، الأثير لدينا، يُكوّن وينقل للأجيال التالية أفراحه وأتراحه، آلامه وأحلامه للمستقبل، نظرته للحاضر وعبرته من الماضي والتقاليد الموروثة. بيد أن هذه المعرفة قد تنطوي على الخرافة. ففي المعرفة الشائعة، خاصة تلك التي نستقبلها بحواسنا، نخلع على الطبيعة خصالا كتلك التي يتصف بها البشر (كالمشاعر والفضائل والنوايا وردود الفعل). ورغم محدودية المعرفة الشائعة التي تأتينا مع عائلاتنا أو مجتمعاتنا الصغيرة، فإن الحياة ربما تصبح مستحيلة بدونها. ففي غياب تلك المعرفة سنضطر للتفكير مجددا، ودون توقف، لفهم كل كبيرة وصغيرة تصادفنا، مما قد يلقي بنا في دوامة لا نهاية لها من التردد، والتعثر، والقرارت المتأخرة. وليست المعرفة الشائعة أمرا يخص ثقافة أو حضارة دون أخرى. وإنما لكل ثقافة وحضارة نسختها من المعرفة الشائعة. فالمعرفة الشائعة نقطة انطلاق كل منا في حياته اليومية وفي تفاعلاته مع أقرانه. بل إن العلماء أنفسهم يبدؤون مسيرهم صغارا معتمدين على المعرفة الشائعة، قبل أن يتجاوزوها في مرحلة لاحقة.

الصفحات