أنت هنا

قراءة كتاب محاضرات في مناهج البحث العلمي للدراسات الإنسانية

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
محاضرات في مناهج البحث العلمي للدراسات الإنسانية

محاضرات في مناهج البحث العلمي للدراسات الإنسانية

كتاب " محاضرات في مناهج البحث العلمي للدراسات الإنسانية " ، تأليف د. نبيهة صالح السامرائي ، والذي صدر عن دار الجنان عام 2013 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
الصفحة رقم: 9

نعم، للعلم جانب مظلم يدعو للقلق

للعلم إذاً وجهان، إذ يستطيع في آن واحد، وبكفاءة معقولة للغاية، أن يجعل حياتنا أيسر وأن يدمرها كلية. ويستدعي ذلك دراسة جدية لذلك الشيء المسمى العلم، لنعرف بالضبط أهو "صفقة مع الشيطان" أم "نبع المعرفة."

حاول الفلاسفة عبر العصور تحديد الطبيعة الجوهرية للعلم. ولكن بنهاية القرن العشرين، قادت الرؤى المتعارضة حول العلوم إلى ما سُمّي "حروب العلم". ولحسن الحظ، لم تنتج تلك الحروب قتلى، وإنما كان الضحايا أكاديميين معدودين، تأثرَ سلبا وضعهم العلمي ومصداقيتهم.

بتبسيط زائد، ثارت تلك الحروب في الغالب بين باحثي العلوم الطبيعية وعلماء الإنسانيات (الاجتماع والفلسفة والتاريخ وغيرها). وقد بدا أن هذه الفئة الأخيرة تعبر في الأغلب عن الموقف اليساري، والذي وصف العلم بأنه أداة للقمع والرأسمالية المتوحشة وأنه وسيلة لإشعال الحروب. وقد عمل هؤلاء المفكرون جهدهم على إنزال العلم من عليائه، من حيث كان يُنظر إليه كطريقة لا تبارى لبلوغ الحقيقة. وقد سعى هؤلاء المفكرون لتحقيق ذلك عبر كشف الحجب عن الاستخدامات الضارة والشاذة للعلم. ما فعل هؤلاء المفكرون إذاً أنهم قلبوا الجزء الأول من هذا الدرس رأساً على عقب. فهم لم يروا في العلم وصفاً حقيقياً للواقع، وإنما دين آخر، بطقوسه ومعتقداته وأركانه التي لا تتزحزح أو تقبل الجدل، وكذا بطوائفه المتصارعة وكهنوته. وقد آلوا على أنفسهم إلا أن ينقضوا "المعبد العلمي" ويكشفوا ما ظنوا أنه الطبيعة الحقيقية للمعرفة العلمية – والتي أنزلوها لوضع يضاهي المعرفة الشائعة – ويزيلوا هالة القداسة والأهمية عن عمل العلماء. في الفقرات التالية سنعرض بإيجاز لفكر بعض الفلاسفة المعاصرين حول العلم، والذين كانوا أيضا "محاربين" مشاهير في حروب العلم.

فكر العلماء المعاصرين حول العلم

توماس كون (1922-1996)

رغم أهمية وكفاءة مبدأ "الخَطئيّة" falsificatio الذي طوره كارل بوبر [والذي نناقشه بعد برهة فإن توماس كون (Thomas Kuhn يظل الأكثر شهرة من بين فلاسفة العلوم المعاصرين، بكتابه "بنية الثورات العلمية" المنشور عام 1962، والذي لا يزال يتمتع بشعبية كبيرة. في رأي كُون، البحث عن الحقيقة الموضوعية ليس الهدف الجوهري للعلوم. وإنما العلوم بالأساس منهج لحل المشكلات، يعمل في إطار منظومة المعتقدات السائدة في لحظة تاريخية معينة. وتعبر منظومة المعتقدات والقيم تلك عن ذاتها – برأي كُون – من خلال مجموعة الآليات التي تحدد طريقة إجراء التجارب، ومن ثم استخلاص النتائج. والحال كذلك، فالتجارب ونتائجها تغذي وتدعم بدورها منظومة المعتقدات والقيم التي قامت عليها، وهكذا في حلقة متصلة.

أطلق كُون على تلك المنظومات – والتي تشمل المعتقدات والقيم وآليات إجراء التجارب واستخلاص النتائج – اسم "النماذج المعرفية" (paradigms). ووفقا لهذا التصور، وبحسب كون، يجري العلماء أغلب أبحاثهم وتجاربهم داخل حدود النموذج المعرفي السائد في الحقبة التاريخية التي يشهدونها. ومن ثمّ يدخل إنتاجهم العلمي – وفق تسمية كُون – ضمن "العلم المعياري" (normal science)، أي الذي يوافق معايير النموذج المعرفي السائد. ولكن يبزغ بين الحين والحين علماء مثل كوبرنيكوس، وإسحاق نيوتن، وتشارلز داروِن وآلبرت آينشتين بمنظومات فكرية جديدة تقود إلى الثورات العلمية. فقد دفعت المنظومة الفكرية الجديدة (حينها) التي اقترحها كوبرنيكوس لإعادة النظر حول مركزية الأرض في الكون. وقادت أفكار نيوتن إلى تطوير قوانين موحدة لحركة الأجرام السماوية وحركة الأشياء على كوكب الأرض. وأشاع كتاب دارون "أصل الأنواع" ونظريته عن النشوء والارتقاء رؤية حول نشوء العالم لا تعتمد بالضرورة على وجود خالق، وإنما عالم ليس له بالضرورة غاية، وفي حالة تطور مستمر، ولا يصل أبدا مرحلة الاكتمال. وأخيرا فتحت نظرية النسبية أفقا جديدا في الفيزياء؛ وإليها يُعزى التحول من الفيزياء ذات التدفق الثابت والمتسق للزمن إلى فيزياء جديدة، فيها تدفق الزمن مرن، ويختلف طبقاً للسرعات النسبية لمن يُجري التجارب ويدون المشاهدات.

ورأى كُون أن بزوغ وسواد نماذج معرفية جديدة لا يكون بالضرورة بسبب تفوقها العلمي، ولكن لأن النماذج المناوئة لها تتراجع وتضمحلّ. فنظرية النسبية العامة لآينشتاين أصبحت أكثر قبولا كوصف أدق للطبيعة مع تناقص أعداد العلماء المدافعين عن نظرية نيوتن. وقد أخمدت نظرية كُون (المبنية على مفهوم النماذج المعرفية السائدة وتغيرها من حقبة تاريخية لأخرى) بعض البريق الذي كان يحظى به العلم في أذهان البسطاء. فبعد كُون، تغير المفهوم الذي ساد قبلا عن العلم كرحلة اكتشاف تدريجي، مطّرد، وعقلاني للعالم من حولنا. بسبب نظرية كُون إذاً فقد العلم الهالة التي كانت تخدع الفلاسفة حول آليات إنتاج وبزوغ النظريات التي تحظى بالقبول العام. ولكنها في الواقع أكدت ما كان يعرف علماء كثر: الممانعة الدائمة لدى جماعة العلماء للأفكار والنظريات الجديدة، خاصة تلك التي تنبني على، أو تشير لنموذج معرفي جديد.

الصفحات