أنت هنا

قراءة كتاب الفلامنجو يهاجر من تلمسان

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الفلامنجو يهاجر من تلمسان

الفلامنجو يهاجر من تلمسان

كتاب "الفلامنجو يهاجر من تلمسان" ، تأليف خليل خميس ، والذي صدر عن دار المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، ومما جاء في مقدمة الكتاب :
 

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 1

بين ضفتين

عاد من المسجد مسرعا وعلى شفتيها ابتسامة يختلط بها الإعجاب بالمكر فهي تتذكره كيف كان يتعاطى الشيوعية والإلحاد ويكفر بكل شيء سوى العقل·

- أيها المتجرد من كل شيء سوى من نسيم قريتك، أتترك صوت عصافيرها وصياح الديك عند انبلاج الفجر (تخاطبه أخته وهي تبتسم)·

- سارة أختي العزيزة أنا وبلادي السويق كالسمكة والماء، فهل سمعت سمكة تعيش دون ماء، ومن قال لك إن من ذاق خضارها واستنشق غبارها وتناثر حرها ورطوبتها في خلايا جسده يروم صبرا عنها، سأعود تأكدي من ذلك ولكن بعد أن أرجع نصف قلبي الآخر ليجمع ماتشظى منه في الأيام الغابرة (يبتسم ويطبع قبلة وداع على جبينها)·

حمل حقيبته البنية الصغيرة على كتفه اليمنى وسحب تلك السوداء الكبيرة، توقف فجأة وعاد إلى الغرفة التي تجلس فيها والدته، فقبلها على رأسها وسالت دموعها فهو يمثل لها الكثير من مخزون الحب الأمومي، هذه المرأة استوطن حبها نياط فؤاده، جرت دموعه كالسيل العرم فخرج وعينه المليئة بالدمع تنظر بصعوبة إلى زوايا البيت التي تحمل له ألف حكاية وذكرى مع عزيز من أسرته، فعند مقدمة المطبخ تذكر وهو يعطي والده الراحل كأسا من الماء وقد وضع قطعة كبيرة من الحصى، فغضب حيال ذلك لكن أيمن كان يستمتع بغضب والده وبمزاحه، تذكر عندما كانت الأسرة تجلس في الفناء المفتوح للبيت وكان صيفا حارا والجميع يصوم رمضان، ويتحمل عذابات العطش فيه، لكنه غافلهم وسكب في جوفه شيئا من الماء ليطفئ لهيب العطش، فاكتشف أن الجميع وراءه ينظر فمنهم من يضحك عليه ومنهم من يعنفه، تذكر إخوته حين يبدأ الليل يرخي ستائر الظلمة على التلال والوهاد القريبة وجدران البيت المتهالكة من قسوة السنين، فإذا بأخيه سالم يزيد شخيره ويتحلقون حوله لاكتشاف أجمل تعليق ساخر فعلي يقول: إنها ماكينة كهربائية، وناصر يقول إنها نوع من الأسلحة الأوتوماتيكية، وتعلو الضحكات ثم يقوم علاء بوضع مشبك للملابس على أنف سالم ليمنع خروج الصوت ويواصل الجميع الضحك، وذلك المسكين لا يستيقظ سوى مفزوع، وبعد أن يضيق النفس عليه، وأمام غرفة والديه تذكر عندما كان يحمل العصا على رقبته واضعا كلتا يديه على أطرافها ليسقط على ذقنه ويتناثر الدم، فتسرع إحدى النساء العجائز اللواتي تتناول القهوة مع والدته بتضميده بالوسائل التقليدية المتوارثة لا يخلو الملح من مكوناتها، لكنه اكتشف أن تلك السقطة فعلت به الأفاعيل، فقد تركت له ندبة طويلة في أسفل اللحيين لتكون مثار سخرية من إخوانه بأنه يمتلك شكل عصا في أسفل الذقن، تذكر تلك النافذة بزجاجها الأبيض الشفاف الذي تجمعت حبيبات الصبغ الخارجي للبيت عليها كالفراشات حول النار يحب أن يفتحها دائما فإذا بأحد أصدقائه يأتي ليلا وهو خائف يتوسل إليه أن يفتح له لأنه رأى جنا وسحرة يتحلقون حول نار مشتعلة في إحدى المزارع القريبة من البيوت؛ ليكتشفوا صباحا أنها مجرد بقايا من جذوع الأشجار المتهالكة أراد صاحبها التخلص منها بالحرق، كل شيء في هذا البيت يحمل ذاكرة مستقلة وحدثا عزيزا على قلبه، تحرك وأخذت أخته ساره تداعبه لتخفف عنه وطأة الرحيل:

- سلم كثيرا على نصفك الثاني الذي وجدته أخيرا (بابتسامة ماكرة)·

ابتسم ووضع حقائبه في سيارته وانطلق إلى وجهته، أخذ ورقة بيانات السفر في يده يتحسسها ويلاعبها تارة ويضعها في حضنه تارة أخرى، كمن يمسك على شيء ثمين جدا، كان في كل لحظة ينظر إلى البيانات الموجودة بفرح وسرور كمن كان في حلم جميل، لا تمر دقيقة حتى ينظر اليها مرة أخرى كمن لا يصدق الأمر، فجأة وبعد عشرين كيلو متراً قفل راجعا، فقد تذكر شيئا ثمينا ومهما قد نسيه في البيت ليرجع مسرعا، وإذا به يدخل البيت فيجد سارة وهي تذرف الدمع على فراقه، لكنها حاولت إخفاء عواطفها وتجفيف دمعها الذي لا تجففه شمس الظهيرة، نظر إليها بابتسامته المعهودة وكأنه يخفف عنها لوعة البعد، لكنه لم يخرج حرفا واحدا من ثغره وذهب إلى غرفته، فأخذ كنزه الثمين الذي لا يفتحه إلا نادرا، وحين هم بالخروج سمع حمامة تنوح على سطح البيت فانسابت الذكرى العطرة في خلجاته ووجد أنه أخذ يسمع ذلك الهديل الجميل، كم يطربه هذا الصوت، كم يرجعه إلى عصور بني آدم المتعاقبة، هي نفسها هذه الحمامة التي ناحت زمن امرئ القيس والمتنبي وقيس بن الملوح، هي نفسها التي كانت تناديه وهو في مدرسة القرية، حيث كان المعلم يشرح بكل جوارحه بحور الشعر ورنينها، لكن صوت الحمامة كان أعذب لحنا وأهدأ شجنا، تذكر وهو يبتسم معلم اللغة العربية حيث كان يقول لهم: أرجوكم اسألوا يا أولادي، اسألوا أي معلومة في النحو، أشعروني بأنكم مازلتم تتنفسون الهواء في صدوركم، فرفع أيمن يده ليسأل بكبرياء وهو يستشعر العيون ولسان حالها يقول: ما شاء الله على التركيز المميز والحرص واللباقة، لكن السحر انقلب على الساحر، فأخرجه المعلم إلى السبورة بعد أن اكتشف أنه لم يستوعب الدرس أصلا، فبدأ بضربه على الدبر أمام الجميع ليكون مثار سخرية أمامهم، فلعن اللحظة التي جعلته يرفع إصبعه، لكنه أيضا كان مستمتعا بالضرب فهو ضمن سياق الأجيال التي لا تأكل ولا تنام ولا تفكر ولا تنجح ولا تستمع إلا بالضرب، بدأ يتحرك نحو السيارة وما زال يستمع إلى تلك الحمامة وأشجانها، فتذكر الأيام الخوالي التي نامها على سطح البيت أيام كانت أقصى أمنيات كل ريفي دخول التيار الكهربائي إلى بيته، ابتسم حين تذكر والدته وهي تصر على والده بأن يجعل سطح المنزل محاطا بالوارش حتى لا يسقط أيمن وإخوته من أعلى، ضحك حين تذكر أن إخوته كل واحد يحجز مرزابا حيث خصص لخروج ماء المطر من أعلى ليكون حمامه الخاص، فإذا انتصف الليل هطلت أمطار الأجساد الصغيرة لتغذي الحشائش المتطفلة في الأسفل، تذكر فرحة إخوته الصغار حين يكون النوم في الأعلى حيث تختلط رطوبة الجو برائحة البول، فلا تفرق والدتهم بين الاثنين الا بالنتانة، تذكر حين تجبره والدته أن يضع الحناء على يده ورجله فلا تنفعه كل جمل التوسل والاسترحام، فالعيد اقترب، وحين يرضخ لها لا يستمتع ذلك الحناء برجله، حيث البكاء والصراخ يعلو منتصف الليل، فتضطر الوالدة تحت وابل من تهديده لإزالته ونشره في أرجاء البيت، فتزيله مهزومة مع العتاب والتقليل من رجولته ومقارنته ببعض الفتيات الضعيفات·

الصفحات