أنت هنا

قراءة كتاب فلسفة الأخلاق بين أرسطو ومسكوية

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
فلسفة الأخلاق بين أرسطو ومسكوية

فلسفة الأخلاق بين أرسطو ومسكوية

كتاب " فلسفة الأخلاق بين أرسطو ومسكوية " ، تأليف د. ناجي التكريتي ، والذي صدر عن دار دجلة ناشرون وموزعون ، ومما جاء في مقدمة الكتاب :

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 8

يذكر مسكوية أن جالينوس يقول في مكان آخر من كتابه (كتاب الأخلاق) أن جالينوس يقول أن خيار الناس ينتفعون بأعدائهم، أن الحقيقة التي توصل إليها جالينوس إذن أن كل واحد من الناس يرى عيوب غيره على الاستقصاء، على أنه لا يرى شيئاً من عيوب نفسه.

إذا أردنا أن نتوخى واقع الحال، فإن الإنسان الذي ينشد الفضيلة يحتاج إلى الصديق المخلص الناصح، في الوقت نفسه على الإنسان أن يجتنب العيوب، حتى لا يتهم بها من قبل الأعداء، الشيء الواضح أيضاً، إن الإنسان يرى عيوب غيره، بينما لا يرى عيوب نفسه.

يستشهد مسكوية بما قاله الكندي في هذا الشأن في كتابه (رسالة في دفع الأحزان) حتى أن مسكوية يقول أن كلام الكندي هذا أبلغ من كل الذي سبقوه، إن الكندي نصح طالب الفضيلة أن يتصفح أعمال جميع معارفه، ثم يلاحظ صور سيئاتهم فيتجنبها، عن طريق برنامج يومي لا يحيد عنه، أنه في انتهاء كل يوم وليلة، يتصفح أعماله أيضاً، ويذم ما قبح منها، ويردع نفسه عنها، فيتخلص منها، ولا يعود إليها، حتى لا يأتي زمان إلا وقد عفى عنها، هذا وفي الوقت ذاته، يجب على الإنسان أن يعوّد نفسه على الأعمال الحسنة، حتى تتجه النفس كلياً إلى السيرة الفاضلة، ويمتنع نهائياً عن آتيان الأعمال القبيحة، أكثر من هذا، يجب على الإنسان أن يكون مثالاً للآخرين في اكتساب الفضيلة والابتعاد عن موطن الرذيلة، حتى يفيد نفسه ويفيد الآخرين أيضاً.

إما إذا مرضت النفس وخرجت عن حالتها الطبيعية، فلا بد من البدء بمداواة ما عظم أثره واشتدت جنايته على الإنسان، أن أمراض النفس الشديدة، في رأي مسكوية ما خرجت من الوسط، سواء إلى التفريط أو إلى الإفراط.

لعل أحد الأمراض الشديدة التي تصيب النفس، هو الخوف الشديد في غير موضعه، أن سبب الخوف -في رأي مسكوية- هو توقع مكروه وانتظار محذور، هذا يعني الخوف من حوادث المستقبل، بغض النظر من أن هذه الحوادث ربما تكون شديدة أو سهلة يسيرة يكون الشخص نفسه سببها أو يتوقعها من غيره، مع هذا، فإن الإنسان العاقل، لا ينبغي أن يخاف من أي منها، لأنه ربما ستكون أو لا تكون، فلماذا إذن يتوقع الإنسان المكروه، وربما يتعجله ويخاف منه.

يستشهد مسكوية بقول الشاعر في هذا الشأن مستحسناً قوله:

وقل للفؤاد أن نزا بك نزوة من الروع أخرج أكثر الروع باطله

إن على الإنسان الذي يخاف على نفسه من المكارة، إن يتجنب سبب حدوث المكارة، وذلك بترك الذنوب والجنايات، وأن لا يقدم على عمل إلا إذا أمن شره وحتى لو وقع المكروه على الإنسان فيجب عليه أن يتجمل فيحسن عيشه كي تطيب له الحياة.

إما إذا كانت أسباب الخوف ضرورية كالهرم مثلاً، فعلى الإنسان أن يفكر أنه ليس بمخلد في هذه الحياة، أنه إذا أحب طول الحياة، فلا بد أن تنتهي به الحياة إلى الهرم، إن علاج الخوف من آفات الشيخوخة، هو أن يعلم الإنسان أن مع تقدم العمر يحدث عنده نقصان الحرارة الأصلية، وتصاب أعضاؤه بالضعف، إضافة إلى ما يقابل ذلك من موت الأحبة وفقدان الأقران.

مع ذلك، فبدلاً من أن يستشعر الخوف والفزع، عليه أن يتوقع ذلك ويتصبر، نلاحظ أن مسكوية، بتأثير الدين الإسلامي عليه، ينصح من يصل إلى هذه الحالة بدلاً من أن يفزع ويخاف عليه أن يتجه إلى الله ويكثر الصلاة في المساجد.

لعل أعظم ما يلحق الإنسان من الخوف – في رأي مسكوية – هو الخوف من الموت، مع هذا، فإن مسكوية يعلل بأن الذي يخاف من الموت، يجهل حقيقة الموت ويجهل أين تصير نفسه بعد الموت، أنه يتصور أن نفسه ستنحل، كما يتحلل جسمه، أو أنه يتصور أن للموت ألماً عظيماً أشد من ألم الأمراض التي تقدمته وأدت إليه، أنه ربما يعتقد بالعقوبة التي تحل به بعد الموت، أو أنه لا يدري على أي شيء يقدم بعد الموت، أو ربما هو يحزن على ما يخلفه من مال ومقتنيات.

يرد مسكوية على ذلك فيقول، أن كل هذه ظنون باطلة لا حقيقة لها، أن حقيقة الموت ليست بأكثر من ترك النفس، استعمال آلتها، الذي هو البدن، أن النفس جوهر غير جسماني، فهي إذن غير قابلة للفناء، أن الذي يفني هو الجسم فقط، لأنه جوهر عرضي، أما جوهر النفس فهو باق خالد.

يضرب مسكوية مثلاً بالماء، وكيف يستحيل إلى بخار أو هواء يستحيل إلى ماء أو نار، أن هذا المثل يدل على أن الأعراض تستحيل وتتغير، لكن الجوهر باق لا سبيل إلى عدمه، الجسم أيضاً يستحيل ويتغير من حال إلى حال، ولكن جوهر النفس باق لا يستحيل ولا يتغير.

إن الذي يخاف من الموت، فهو يجهل مصير النفس بعد الموت، أو هو يتصور أنه إذا انحل بدنه تلاشت نفسه وعدمت أيضاً، إن ذلك سببه الجهل بحقيقة النفس، وهذا الجهل هو الذي حمل الحكماء على طلب الحكمة، وطرح لذات الجسم، وترك ما يستعظمه الجمهور من المال والعقار، فتهون عندهم الدنيا، وهم يبلغون الغايات العليا، حتى يصلوا حقيقة الروح.

يشير مسكوية قائلاً، لذلك جزم الحكماء، بأن الموت موتان: موت إرادي وموت طبيعي، وكذلك الحياة هو مفارقة النفس للجسم، كذلك الحياة الإرادية هي ما يسعى إليه الإنسان في الحياة الدنيا من المآكل والمشارب، والحياة الطبيعية هي خلود النفس وبقاؤها السرمدي.

وبالرغم من أن مسكوية لم يذكر هؤلاء الحكماء غير أنه في الحقيقة، أن أول فيلسوف أخلاقي أشار إلى ذلك هو سقراط.

مع ذلك فإن مسكوية يستشهد بأفلاطون ووصيته إلى طالب الحكمة قائلاً: (مت بالإرادة تحيا بالطبيعة)، أن الذي يخاف من الموت الطبيعي، فإنه يجهل إن الإنسان حي ناطق مائت، وفي الموت تمامه، نلاحظ أن مسكوية يعالج المشكلة معالجة دينية، إذ يقول أن الإنسان بالموت يصير إلى أفقه الأعلى، ويقرب من بارئه، ويفوز بجوار رب العالمين، ويخالط الأرواح الطيبة من أشباهه.

أما الذي يخاف من الموت، فإنه يعتقد أن للموت ألماً عظيماً، أن هذا وهم لا أساس له من الحقيقة، لأن التي تحس وتفرح هي النفس، أما الجسم فلا يشعر بالألم، الموت هو مفارقة النفس للجسم، وبما أن الجسم كان يحس ويتألم بالنفس، فإذا فارقته النفس، فلا يبقى فيه شعور بحس أم ألم.

أما الذي يخاف العقاب بعد الموت، فهو إذن يعترف بخلود النفس، ويعترف بحاكم عادل يعاقب على السيئات، أنه إذن في هذه الحالة يخاف العقاب لا يخاف الموت نفسه، والواجب عليه أن يجتنب الشر في حياته.

والذي يخاف الموت، لأنه لا يدري ما هو مقدم عليه بعد الموت، فهو إذن جاهل، وما عليه إلا أن يتعلم حتى يعلم، فيعرف سبيل السعادة، أن مسكوية وبحسب منهاجه، يمزج طريق الفلسفة مع طريق الدين للذين يريدون التعلم والثقة والوصول إلى السعادة، أنه يقول: أن الثقة التي تكون بالعلم هي اليقين، وهي حال المستبصر في دينه المتمسك بحكمته.

أما الذي يخاف الموت، لحزنه على ما خلف من أهل وولد ومال، فهو يتعجل على مفارقة ملاذ الدنيا وشهواتها، وهو يتعجل الحزن والألم، على شيء لا يجدي عليه الحزن بطائل، أننا لو لم يمت أسلافنا، لم ينته الوجود إلينا، ولو بقي الناس مع تناسلهم ولم يموتوا لما وسعتهم الأرض، علينا كذلك أن نعلم، إن الإنسان كائن، وكل كائن مائت، فالموت إذن ليس برديء، بل أن الرديء هو الخوف منه، وما يخاف من الموت إلا الجاهل به وبذاته.

أرى من المناسب أن أشير إلى أن أبا بكر الرازي قد سبق مسكوية في هذا المقام، أبو بكر الرازي كتب فصلاً كاملاً في كتابه الطب الروحاني سماه (الخوف من الموت)، لقد ذهب الرازي إلى أن العاقل يرى أن الموت شيء طبيعي، وأن النفس تصير من بعد الموت إلى ما هو أصلح لها على ما كانت فيه، إن الإنسان لا يصيبه بعد الموت أذى لأن الأذى حس، وليس الحس إلا للحي، أن العاقل لا يغتم للموت، لأنه شيء لا بد منه، لا بأس أن اذكر كذلك، أن ياقوت الحموي صاحب كتاب (معجم الأدباء) يخبرنا أن مسكوية كان مفتوناً بكتب الرازي.

الحزن أيضاً عند مسكوية ألم نفساني يعرض لفقد محبوب أو فوت مطلوب، أن الحزن يأتي من جراء فقدان شيء يرغب الإنسان فيه، أو أنه لا يستطيع أن ينال شيئاً يريده ويتمناه، أنه إذن يحزن، أما المهني أمر لم يحصل عليه، أو أنه يحزن ويجزع لأمر يتلهفه ولا يستطيع الوصول إليه.

لا بد من الإشارة في هذا المقام، إلى أن الكندي وأبا بكر الرازي قد سبقا مسكوية فيما ذهب إليه، أن الكندي عرف الحزن بأنه ألم نفساني يعرض لفقد المحبوبات أو فوت المطلوبات، الرازي يرى أيضاً أن الغم يتولد بسبب توقع فقد المحبوبات، يوصي الرازي بوجوب الاحتراس قبل حدوث فقدان الشيء، يجب أن نعلم أن كل شيء خاضع للكون والنفس فلا نحزن عليه، وأن الرجل العاقل لا يغتنم أبداً.

أرجع إلى مسكوية الذي يضيف قائلاً بأن الأمر يهون عند الإنسان إذا ما علم أن كل ما في هذه الدنيا خاضع للكون والفساد، وغير باقٍ ولا ثابت، أن الشيء يأتي ويتغير ويذهب، وإن الثابت هو ما كان في عالم العقل، على الإنسان إذن أن يخفف من غلوائه في طلب ما لا يستطيع الحصول عليه، فيصرف همته على المطلوبات الباقية، وما يستطيع أن يناله، فيأخذ منه مقدار الحاجة فقط، ولا يتجه إلى المباهاة والادخار، حتى إذا فارقه ذلك الشيء ما لم يحزن عليه ولا يأسف، بل يجب أن يعلم حق العلم أن عالمنا هذا هو عالم الكينونة والعدم.

إن من طمع من الكائن الفاسد إلا يعدم فقد طلب المحال، ويبقى نتيجة لذلك محزوناً خائباً شقياً، إما إذا جمّل نفسه، على أن يرضى بما يجده ولا يحزن لما يفوته، عاش سعيداً مسروراً، عليه في الوقت نفسه، أن ينظر إلى حال الناس في مجتمعه، فسوف يرى سرور القانعين بحرفهم ورزقهم، فيستشعر الفرح بما آتاه الله من نعم، مثل الصحة والرزق والسعادة.

لم ينس مسكوية أن يضرب مثلاً بآية كريمة، فيشير إلى أن الله تعالى قال: )ألا أن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون( لأن الإنسان الذي يحمد الله على نعمه التي اسبغها عليه يكون من أولياء الله الصالحين.

وعلى ذكر مسكوية هنا، أن الدنيا خاضعة للكون والفساد، وأن كل شيء يتغير ثم ما يلبث أن يقول إن الثبات لعالم العقل وحده، أقول أن فيلسوف التغير هو هرقليطس، الذي عرف بغموضه وبمقولاته في الحركة والتغير، مثل (كل شيء ينساب ولا شيء يسكن) أو (كل شيء يتغير ولا شيء يدوم على الثبات) أو مقولته الشهيرة: (أنت لا تنزل إلى النهر مرتين، لأن مياهاً جديدة تجري تحتك باستمرار)، كما أن فلسفة هرقليطس كانت معروفة في العالم الإسلامي، أما فيلسوف الوحدة والثبات فهو بارميندس، وفيلسوف العقل انكسارغوراس، إذ ما لبث أفلاطون أن تمثل فكرهما، وطبق ثبات العقل على المثل في (كتاب الجمهورية) وأن جمهورية أفلاطون كانت متداولة في دوائر الفلاسفة المسلمين.

ينهي مسكوية كتابه (تهذيب الأخلاق) بأخذ مقتطفات من الكندي، أنه يذكر صراحة: وقال الكندي في كتاب (دفع الأحزان) أن المحزونين من الناس هم أولئك الذين فقدوا ملكاً أو طلبوا أمراً فلم يجدوه، المعنى نفسه، ما قاله أبو بكر الرازي ومسكوية فقد سبقهما إليه أبو يوسف الكندي.

يعلل الكندي أيضاً، أن كثيراً من الناس ليس لهم ذلك، وغير قادرين الحصول عليه، ومع ذلك فهم مغتبطون وغير محزونين، نرى الكندي يحلل الأمر تحليلاً لطيفاً عندما يذكر أن مثل هؤلاء الحزانى سرعان ما يعودون إلى حالهم الطبيعي، وإلى المسرة والأفراح، لأن كثيراً يفقدون المتاع والأولاد والمال، ومع هذا فإن الزمن ينسيهم مصدر أحزانهم.

إن العاقل إذا نظر إلى أحوال الآخرين، وجد أنه ليس الوحيد الذي يعاني من مصائب الحياة وأن الحزن هو مرض عارض، ما يلبث أن يزول لأنه غير طبيعي، كذلك عند الكندي، أن الحسد من دواعي الحزن، إن الإنسان الحسود ينظر إلى ما بأيدي الآخرين، فيديم حسده لهم ويشتد حزنه، مع كل هذا فإن العاقل من ينظر إلى هذه الأشياء أنها ودائع الله عند خلقه ما تلبث أن تزول، أن الأفضل للإنسان إذن، أن يهتم بالحصول على ما يفيد النفس والعقل لأنها باقية غير زائلة، أننا إذا كنا نحزن على كل شيء نفقده، لبقينا طوال عمرنا محزونين، وإذا على العاقل أن يقل من المقتنيات لأن فقدها يكون سبباً للأحزان.

الصفحات