أنت هنا

قراءة كتاب المشوار

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
المشوار

المشوار

كتاب " المشوار " ، تأليف د. فخري لبيب ، والذي صدر عن مكتبة مدبولي ، ومما جاء في مقدمة الكتاب :

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
دار النشر: مكتبة مدبولي
الصفحة رقم: 8

إلا أن خالاتى تأففن من هذا العمل الفنى وآثاره التى تمثلت فى اتساخنا واتساخ ملابسنا واتساخ المنزل، والضجة التى كان يحدثها رواد المسرح والتى أقلقت الجيران. كما أن تكرار النمر لذات المتفرجين، وصعوبة الظروف الاقتصادية لأسر بعض زبائننا التى لا تستطيع توفير مصروف يومى ثابت قدره مليم واحد، وربما لأكثر من إبن، قد أثر على انتظام جمهورنا فاتجه نحو التناقض، مما أدى إلى إغلاقنا للمسرح.

انتهت مدة إجازتنا فى منزل جدى ينى، فعدنا إلى طما. غير أننا ما أن وصلنا حتى بدأنا الاستعدادات للذهاب إلى منزل جدى لأبى، المقدس حنا، فى سوهاج. اتسعت الزيارة هذه المرة لتشمل أبى أيضاً.

كان جدى فى الأصل من نواحى ديروط، وجدتى من نواحى أولاد إلياس. غير أن جدى، لسبب ما، ترك بلده إلى المنيا، ربما اختفاء من السلطة، وربما خشية صراع حول ميراث، ثم انتقل من المنيا إلى سوهاج، حيث استقر وانجب قبيلة المقدس حنا. كان يعمل خراطاً فى ورش السكك الحديدية. ويسكن فى نجع الورشة الذى يقع قريباً من الورش، وشوارع النجع كلها حوارى. ويبدو أن جدى كان من أوائل من سكنوا تلك الحارة. كان يمتلك فيها ثلاثة بيوت، وكانت جدتى تمتلك بيتا رابعاً. وكانت واحدة من عماتى تسكن فى الجوار أيضاً، فى بيت تمتلكه.

كانت حارة جدى، لا تسمح بمرور عربة الحنطور. فبالإضافة إلى ضيقها، كثيراً ما يرقد بعرضها جمل أو أكثر، ينام مسترخياً يجتر. كنا نترك الحنطور على رأس الحارة، ونجتازها سيراً على الأقدام حتى منزل جدى. وكانت أمى تخشى من الحسد، علينا، وعلى نفسها وزوجها. فقد كان أهل الحارة يطلقون عليها اسم "أم الولاد"، لأن ذريتها كلها حتى الآن كانت ذكوراً. كانت تخشى أن يراها أهل الحارة هى وزوجها وخلفها أولادهما الأربعة، أفندية صغارًا. لذا كانت تصر دوما على الاحتماء وأسرتها، من عيون الحاسدين، بالليل وقد أظلم المكان.

كنا نعرف بيت جدى الذى سننزل فيه من تمساح كبير محنط محشو بالقش معلق على بابه. كان مدخل البيت يقود إلى حجرتين فارغتين بلا أبواب، ومنافذهما مغلقة طوال الوقت مما كان يجعلهما مظلمتين تماماً. كنا نأتى بـ "قلة" فخاربه، ونكسر رقبتها، ونقلبها على ما تبقى من هذه الرقبة، بعد أن نكون قد فتحنا، بعناية شديدة، ثقبين أشبه بالعينين فى جزئها المستدير، ونضع أسفلها فتيلاً مشتعلاً، وبذا تصبح أشبه برأس إنسان، واقعة على الأرض، والنار والدخان يخرجان من فتحتى الثقبين. وكان الأطفال الذين يلعبون معنا "الغماية" من الأقارب أو الجيران، يحاولون الاختفاء فى "بير السلم" فيفاجأون بهاتين العينين المشتعلين فى رأس "أقرع"، ملقى فوق الأرض، فـ "ينسرعون" ويصابون بالذعر صارخين "عفريت، عفريت". وتسرع جدتى تخفف عنهم أثر هذا الرعب:

-دى قُلة يا ضناى. ما تخفش يا حبيبى. تعالى أوريهالك.

وتدارى جدتى ابتسامتها من شقاوة أحفادها.

-صحيح ما عفريت إلا بنى آدم.

ثم تنادى على أمى:

-تعالى يا إلين شوفى عيالك وشقاوتهم. شياطين من صغرهم.

كانت تحبنا كثيراً. وأعتقد أنها كانت سعيدة بشقاوتنا. ولكن لو بلغت تلك المسائل جدى يختلف الأمر. كان يتمنطق بحزام جلدى عريض، فيخلعه، وتكون تلك إشارة لما يمكن أن يحل بناء فنسرع هاربين، أو نحتمى بجدتى وأمى. كانت جدتى تهدأ من إنفعاله:

-خلاص يا مقدس، مش هيعملوا كده تانى. قول يا فخرى مش هعمل كده تانى.

لكننى أتردد وأقول:

-إحنا كنا بنلعب يا سيدى، حتى إسأل ستى.

وتسرع أمى تتدخل:

-خلاص يا عمى أنا هضربه. هوه أصله لمض.

ويهدأ جدى وتمر الأزمة. غير أن أزمة أخرى كادت ألا تمر. لم تكن تلك فى سوهاج، لكنها كانت فى طما. فقد جاءنا طبيب قريب لنا من طهطا، طبيب مشهور للغاية، لكنه قبل أن يجرى لنا عملية ختان بالجملة. كنا نحن الأربعة، ومعنا خالنا الصغير منير والذى تصادف وجوده معنا. وسافر الطبيب مشكوراً، وجاء جدى لزيارتنا والاطمئنان علينا. كنا نسير وقد انفرجت سيقاننا، ونحن نضحك من بعضنا البعض، من منظرنا وما حل بنا. ولا أدرى ما الذى أخذه جدى علينا، إذ أنه غضب غضباً شديداً، وخلع حزامه، ولم يكن خالى الأصغر يعرف دلالة هذه الحركة، لكننا نحن أحفاده كنا نعرفها جيداً، فجذبناه بشدة، حتى كاد يقع، وانطلقنا مذعورين نبحث عن مأوى نختفى فيه، وكل منا يحمل جرحه بين ساقيه. هربنا إلى الحديقة وسطح المنزل وحجرة الفرن، وعشش الطيور، تناثرنا هباء. ودارت أمى ملهوفة تبحث عنا، تجمعنا، وتهدأ مخاوفنا، وتتأكد، فى الأساس، أن جراحنا لم تنزف بمناسبة هذا الحدث الجلل.

كان سيدى وستى (جدى وجدتى) كتلة من الحنان. وأنا لا أتذكر أبداً أن هذا الحزام الجلدى الرهيب قد نزل على جسد واحد منا. لكنه كان وسيلة تخويف "تربوية". كان رمزاً أكثر منه أداة.

كانت ذرية جدى، أربعة من الذكور: صبحى ومهنى ولبيب وناشد، وثلاث من الإناث. كان عمى الأكبر يعمل منذ صباه خراطاً مع جدى. وقع عليه ما كان يقع على الإبن الأكبر من غبن أن يكون فداء لباقى أخوته، ويعمل، فى الغالب، فى مهنة أبيه، كى يعاونه على تربية الباقين. وكان عمى مهنى معاون بريد فى مكتب سوهاج، أما عمى ناشد، فإننى أتذكره كظلال وأطياف بعيدة. كان يمسك بيدى، يطوحنى فى الهواء فوق سطح المنزل وأنا أصرخ فى سعادة بالغة. كان فى البكالوريا، وكان فرحة الأسرة كلها وأملها أن يلتحق بالجامعة. لكنه مرض ومات فى ريعان شبابه، فكان صدمة داوية لوالديه وأخوته.

كان عمى صبحى يسكن وأسرته فى المنزل الملاصق لمنزل جدى، وكان يمتلكه أيضًا. كان لديه حينذاك ابنة وابنان: إبراهيم ونبيل (وسوف يكون لديه عندما تكتمل ذريته، ابنة وستة أبناء). وكان فى وسعنا الانتقال ما بين البيتين من أبوابهما، أو قفزا من فوق الأسطح، وتلك كانت الأقرب إلينا، والمفضلة لدينا.

وكان عمى مهنى يسكن هو وأسرته فى نجع أبو شجرة، فى منزله الذى يمتلكه. ونجع أبو شجرة حى أرقى من نجع الورشة. كان لديه حينذاك ابنتان وابن: داود (عندما تكتمل ذريته سوف يكون لديه ابنتان وثلاثة أبناء).

أما عماتى الثلاث، فقد تزوجت إحداهن وأقامت فى الإسكندرية وأنجبت إبنين. وتزوجت الثانية وعاشت فى القنطرة، وأنجبت قبيلة. وتزوجت الثالثة فى سوهاج وأقامت إلى جوار جدى، وقد أنجبت بنتين أسمتها الضبعة والغولة، رغم رقتهما الشديدة. لم يكن يعيش لها خلف، وكان للحسد مكانته العالية، فنصحها المعارف والأحباء وذوى الخبرة أن تطلق على من تنجبه أسماء مخيفة تبعد عنه عيون الحساد. وكان اسماهما الحقيقيان فايزة وفوزية، فقد فازتا بالحياة.

كان جدى وجدتى وعمى صبحى وزوجته وابنته قد ذهبوا جميعاً إلى القدس فى هذا العام. مصلحة السكك الحديدية تمنح العاملين لديها تذاكر مجانية، والقطار ينطلق من القنطرة شرق إلى القدس. وعاد جدى المقدس حنا وهو يحمل لكل ولد من أحفاده طاقماً عربياً، عقالاً وشالاً، وارتديناهما على الجلاليب البيضاء التى "تشف وترف" والصنادل المحترمة لنختال بكل هذا على باقى أبناء الحارة.

* * * *

الصفحات