أنت هنا

قراءة كتاب المشوار

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
المشوار

المشوار

كتاب " المشوار " ، تأليف د. فخري لبيب ، والذي صدر عن مكتبة مدبولي ، ومما جاء في مقدمة الكتاب :

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
دار النشر: مكتبة مدبولي
الصفحة رقم: 10

واقترب الشاب الأمير منى حلو الصورة، ناعماً، رياناً، تفور وجنتاه البيضاوتان بالدماء. وخيل إلىّ أنه يبتسم لى، فكادت ركبتاى أن تتهاويا. وشعرت بفخار ما بعده فخار، أن أرى أمير الصعيد، وولى العهد وجهاً لوجه. أحسست أن خيوطاً قوية تربطنى به، تشدنى إليه، حتى أنه عندما مات الملك فؤاد وأصبح الأمير فاروق ملكاً على البلاد، خرجت مع "تلاميذ المدرسة" نهتف فى شوارع أبو قرقاص "مات الملك، يحيا الملك"، وأنا سعيد للغاية، فقد غدا صديقى الأمير فاروق، غدا الملك فاروق الأول، حفظه الله. أحسست وكأنى أنا نفسى قد أصبحت لى يد فى حكم البلاد.

* * * *

الترعة الإبراهيمية تفصل المحطة شرقاً عن البلدة غرباً، عن أبو قرقاص الفكرية. غير أن هنالك أبو قرقاص أخرى تقع شرقى الترعة والمحطة، أنها أبو قرقاص البلد، والفرق شاسع بين تلك وبين أبو قرقاص الفكرية. تبعد أبو قرقاص البلد حوالى كيلو مترين عن محطة السكة الحديدية، وهى منطقة ريفية تماماً قرب النهر، وتنتشر فيها الخنازير بكثافة شديدة.

أبو قرقاص الفكرية تقع غربى الترعة الإبراهيمية، التى يعلوها كوبرى أمام المحطة، كوبرى يصب فى الشارع الرئيسى الذى يمتد بحذاء الترعة، والذى يزينه محل الإسكندرانى للأسماك الشهية، ومخبز بيع "العيش المجر، وهو خبز لذيذ للغاية يغطى السمسم صفحته العليا المقددة حتى الاحمرار بلون الكهرمان. وهنالك أيضاً محل "كاتشونى الجريجى"، والذى تعرض فى واجهته أنواع الياميش المختلفة، وكذا "الوشنة" التى تصنع منها مربى غاية فى الجمال. ولكوبرى الإبراهيمية ذكرى لا أحبها أبداً. كنت أعبره عائداً من عند والدى فى المحطة. كنت منتشياً سعيداً أشوح بقدمىّ فى الهواء، وفجأة اندفعت فردة الحذاء اليمنى إلى أعلى، وقبل أن أتبين ما جرى سمعت صوت طرطشة شديدة فى الماء. وكان علىّ أن أهرع إلى المنزل نصف حافٍ، لأتلقى نصيبى من اللوم والتقريع.

أبو قرقاص الفكرية جميلة نظيفة. تبدو كأنها قد قامت امتداداً "لفابريكة السكر"، ذلك المصنع الذى يبعث الحياة فى المدينة بأجور العاملين فيه، والتى تفوق أجور الموظفين العاديين.

حدث ذات ليلة أن اشتعلت النيران فى مخازن قصب المصنع. أسرع المدير يعاين ما يجرى ويحاول إطفاء الحريق. أطلقت عليه النيران وقتل. قيل أن الأساس فيما جرى الليلة هو القتل، فقد كان المدير مستبداً بالعاملين، وأن الحريق لم يكن غير الفخ الذى نصب له لاستدراجه.

* * * *

مر علىّ أحد زملائى وأصدقائى فى المدرسة. قال، إن هنالك صندوقاً عجيباً أحضره المقهى الذى يجاور منزلهم، صندوقاً يتكلم. قالت والدتى، إلى أين؟ قلت، لأرى صندوقاً يتكلم. بدا عليها الاندهاش والتوجس. قالت، بسم الصليب وإشارة الصليب. نصحتنى ألا أقترب منه، بعد أن حاولت منعى من الذهاب، ولم تستطع. ذهبت وصديقى. كان المقهى ممتلئاً بالناس، بين مصدق وغير مصدق، لكن الجميع فى حالة من "الهياص والزياط". شققنا طريقنا بين سيقانهم حتى بلغنا الصندوق المتكلم بعد جهد جهيد. كان صندوقاً من خشب جميل وواجهة مزخرفة، وقد وقف صاحب المقهى قبالته، بينما وقف العاملون فى المقهى حوله حماية له. لعب صاحب المقهى دور الحاوى. كان يدير أزراراً فتصدر عن الصندوق أصواتاً مختلفة، ثم ثبته على قراءة القرآن الكريم. قال صديقى، ونحن نغادر، بينما يتلفت حوله فى خوف وخشية:

-دا باين جواه عفريت.

شخط فيه أحد المزاحمين:

-وهو العفريت بيقرا القرآن الكريم يا ولد.

أطلقنا سيقاننا فراراً. قال أبى عندما سألته تفسيراً:

-يا بنى الأسلاك بتنقل المكالمات فى التليفون، وبتنقل الإشارات فى التغراف، ممكن الهوا ينقل الكلام للبتاع اللى انت شفته النهاردة. دا العلم بحره غويط يا بنى.

* * * *

أعلن مدرس التاريخ، فى منتصف العام الدراسى، أنه سيكون فرقة مسرحية. أسرعت أنضم إليها، ربما استمراراً لهواية التمثيل التى مارسناها فوق سطح منزل جدى بمنفلوط. جمعنا المدرس وقال، أننا سنتدرب على تمثيلية عن الفرس ودخولهم مصر، وهى، كما قال، من اقتباسه وإعداده. وطلب من كل منا أن يحفظ دوره.

كنا نتدرب بعد انتهاء اليوم الدراسى، ساعة أو ساعتين، يوماً أو يومين فى الأسبوع. أسند إلىّ دور قمبيز، لا أدرى لماذا؟ فأنا لست طويلاً ولا عريضاً بهيئة القادة والغزاة، أنا على عكس ذلك نحيل، لكننى حفظت الدور سريعاً وأجدت أداءه، وكان نطقى للعربية جيداً لتعلمى المبكر فى المدرسة الإلزامية، مما أهلنى لهذا الدور.

لم أكن أكتفى بالتدريب الذى نقوم به فى المدرسة، كنت أنتهز أية فرصة فى المنزل، لأمتطى ظهر السرير وأمثل دورى، إلقاءً وأداءً، مما آثار لى المشاكل مع والدتى، لما كنت أسببه من إزعاج. امتلأ الصوان فى يوم العرض، وأنا وزملائى نعيش فى الكواليس توتراً شديداً، نعيد ونعيد "تسميع" أدوارنا، فامتحان اليوم عسير.

جلس ناظر المدرسة والمدرسون فى الصفوف الأولى. كان الناظر عملاقًا أحمر الوجه، يمسك دوما بخيرزانة رفيعة لمعت من كثرة استخدامها. لم تكن معه اليوم فى هذا الحفل الحاشد، لكننا جميعاً كنا نحس بها فى موضعها، مخفاة هناك وراء مقعدته. كان أحياناً يمر علينا أثناء البروفات، يسأل مدرسنا بصوت "يلعلع" تهديداً ووعيداً، وهو يدفع بالخيرزانة فى الهواء، فيصدر عنها أزيز وصفير:

-الولاد دول عاملين إيه، أنا خايف يفضحونا يوم الحفله.

كان يسير خلفه مدرس الألعاب الرياضية. كان فى الأصل مجنداً بالجيش. وهو المسئول عن الضبط والربط فى المدرسة، وهو الذى يحمل الأولاد المذنبين "ليعبطهم" حضرة الناظر بالخيرزانة على مؤخراتهم.

وهو المسئول اليوم عن المحافظة على النظام واجلاس الضيوف يعاونه بعض تلاميذ القسم المخصوص. عندما دقت الساعة الخامسة، وهى الموعد المحدد للبداية، أسرع مدرس الألعاب الرياضية إلى ناظر المدرسة ليبلغه أن كل شىء "تمام التمام"، فيعطى إشارة البدء، ليتقدم مدرسنا، وهو يفرك يديه، يلقى كلمة الافتتاح تمجيداً للمدرسة وناظرها واهتماماً بتنشئة جيل يحب الفن ويمارسه، وترحيباً بالضيوف الكرام. وقوبلت كلمته بالتصفيق، فانحنى محييا ثم اتجه إلى خشبة المسرح ليدق ثلاث دقات ارتفعت بعدها ستارة المسرح وبدأ العرض.

كان التصفيق الحاد يقاطع الممثلين الصغار، مما كان يثير حماسنا، ويبعث بالطمأنينة إلى نفوسنا، حتى جاء دورى فتقدمت أرتدى ملابس ملك قائد فارسى، وفى يدى سيفاً الوح به فى الهواء، وأقول متحدياً:

أنا قمبير ابن كسرى

صاحب العرش العتيد

قد ملكت الآن مصر

كل من فيها عبيد

الصفحات