أنت هنا

قراءة كتاب الدماغ البشري

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الدماغ البشري

الدماغ البشري

كتاب " الدماغ البشري " ، تأليف سامي أحمد الموصلي ، والذي صدر عن دار دجلة

تقييمك:
1
Average: 1 (1 vote)
الصفحة رقم: 6

لقد طرحت أفكار معمقة علمية وفلسفية لحل هذه المشكلة منذ الفلسفة اليونانية حيث كان أرسطو يؤكد على لا مادية العقل والفكر ثم جاءت ثنائية ديكارت التي فرزت فرزا طغى على الفلسفة إلى القرن العشرين بين الفكر والدماغ والجسم والنفس .

واليوم نجد أن أحدث ما يطرح في هذا المجال هو ما عبر عنه احد العلماء المعاصرين بالقول ( بعض المشاكل العلمية العويصة المرتبطة بمفهوم الوعي وواحدة من هذه المشاكل هي مشكلة الدماغ- الفكر أو الدماغ- الجسد فقد ظل العلماء يتجادلون ولسنوات عدة فيما إذا كان الفكر محددا بالدماغ ؟ أصر الميكانيكيون –أصحاب المذهب الميكانيكي- على الجواب بالإيجاب ودليلهم على ذلك أن الدماغ إذا مات مات معه الفكر ، أما من يسمون بالحيويين –أصحاب المذهب الحيوي-الذي يقول بان الحياة مستمدة من مبدأ حيوي ولا تعتمد كليا على العمليات الفيزيائية الكيميائية ، فيجادلون بان الدماغ تعبير من تعابيرالفكر يمتد إلى خارج حدوده ودليلهم على ذلك أن بالإمكان تدمير أجزاء من الدماغ فيما يبقى الفكر سليما ) [7] .

إن عدم القدرة على الخروج من هذه الثنائية طرح مفردات جديدة وتفسيرات معقدة لطبيعة هذه العلاقة ، فيطرح علماء البيولوجيا تخريجات معينة لهذه الثنائية فيقول احد العلماء تحت عنوان عقول وأمخاخ مستعرضا وناقدا هذه الآراء (ليس من مجال يتضح فيه مدى الخلط بين مستويات التحليل ومستويات الواقع مثل ما يتضح عند مناقشة علاقة العقول بالأمخاخ فالمخ بالنسبة للتبسيطيين هو شيء بيولوجي محدد ينتج من خصائصه ما نلاحظه من السلوكيات وحالات الفكر أو القصد التي نستنتجها من هذا السلوك والعقل ، حسب الوضع السائد في الفلسفة الغربية أو ما يسمى بمادية الحال-الوسط هو ببساطة ما يمكن أن يرد إلى المخ ، فأحداث العقل -الأفكار والانفعالات وما إلى ذلك- تتسبب عن أحداث المخ أو يمكن اعتبارها ببساطة وسائل غير علمية وغير مرضية للكلام عن هذه الأحداث )[8] .

ولعل التقدم في علم الأعصاب وجراحة الأعصاب كان له إضاءة معينة على هذه المسألة المعقدة ، فهذا عالم الفسيولوجية العصبية جون أكلس الحائز على جائزة نوبل يقول ( إن ذلك المخ المحدد ذا التوصيلات المتينة توجد في نصفه الأيسر منطقة لم يقترب منها بعد بأقطاب كهربائية تسمى المخ الاتصالي ، هي على اتصال مباشر بعقل غير متجسد يستطيع ممارسة سيطرته على آلة المخ )[9] .

وقد توصل علم الأعصاب وفسيولوجيا الأعصاب إلى القول بلا مادية العقل بعد دراسات عديدة لخصها أكلس بالقول ( التجارب التي تتم عن الوعي تختلف في نوعها كل الاختلاف عما يحدث في آلية الأعصاب ، ومع ذلك فإن ما يحدث في آلية الأعصاب شرط ضروري للتجربة وان كان هذا شرطا غير كاف )[10] .

أما تشارلس شرنغتون الذي يعتبر مؤسس فسيولوجيا الأعصاب الحديث فنتيجة بحوثه الرائدة في الجهاز العصبي والدماغ خلص إلى القول ( هكذا ظهر فرق جذري بين الحياة والعقل ، فالحياة مسألة كيمياء وفيزياء أما العقل فهو يستعصي على الكيمياء والفيزياء)[11] .

انه يقر أن أنشطة العقل تتجاوز آليات الفيزياء والكيمياء وكأنه يقول انه لامادي أيضا.

لقد امتدت دراسة النشاط الفسيولوجي للدماغ فتوصلت إلى ما عبر عنه احد العلماء المعاصرين بقوله (إذا فالنشاط الفسيولوجي والكيميائي للدماغ وفقا للنظرية العلمية الجديدة أمر ضروري للإحساس متزامن معه ، ولكنه ليس الإحساس بعينه ، والمادة وحدها لا تستطيع أن تفسر الإدراك الحسي ، فالنظرة القديمة تستطيع أن تتحدث عن الموجات الضوئية والتغيرات الكيميائية والنبضات الكهربائية في الأعصاب ونشاط خلايا المخ ، أما عن عمليات الإبصار والشم والذوق والسمع واللمس ذاتها فليس عند المادية ما تقوله ، أن الإدراك الحسي حقيقة ولكنه ليس المادة ولا هو من خواص المادة وليس في مقدور المادة أن تفسره ، ومن هنا يخلص شرنغتون إلى أن كون وجودنا مؤلفا من عنصرين جوهريين أمر ليس في تصوري ابعد احتمالا بطبيعته من اقتصاره على عنصر واحد فالنظرية الجديدة تفترض وجود عنصرين جوهريين في الإنسان الجسم والعقل )[12] .

على أن أكثر من تخصص في هذا الموضوع بتجاربه على الدماغ هو العالم الكندي بنفيلد الذي أجرى أكثر من ألف عملية تجسس وتحسس للدماغ حتى رسم خريطة كاملة تبين من خلالها مناطق الدماغ المسئولة عن النطق والحركة وجميع الحواس الداخلية والخارجية غير انه لم يستطع-حسب اعترافه- أن يحدد موقع العقل ولا الإرادة في جزء من الدماغ ، فالدماغ عنده هو مقر الإحساس والذاكرة والعواطف والقدرة على الحركة ولكنه فيما يبدو ليس مقر العقل أو الإرادة، وهكذا توصل بنفيلد إلى انه ما من عمل من الأعمال التي نعزوها إلى العقل قد ابتعثه التنبيه بالالكترود أو الإفراز الصرعي ويقول بأنه ليس في قشرة الدماغ أي مكان يستطيع التنبيه الكهربائي فيه أن يجعل المريض يعتقد أو يقرر شيئا ، والالكترود يستطيع أن يثير الأحاسيس والذكريات غير انه لا يقدر أن يجعل المريض يصطنع القياس المنطقي أو يحل مسائل في الجبر بل انه لا يستطيع أن يحدث في الذهن ابسط عناصر الفكر المنطقي ، والالكترود يستطيع أن يجعل جسم المريض يتحرك ولكنه لا يستطيع أن يجعله يريد تحريكه ، انه لا يستطيع أن يكره الإرادة فواضح إذا أن العقل البشري والإرادة البشرية ليس لهما أعضاء جسدية )[13] .

من هنا كانت استنتاجات بنفيلد بان هناك فرقا بين الدماغ والعقل فيقول بان العقل لا الدماغ هو الذي يراقب ويوجه في آن معا ، ويقول بان توقع آلية الدماغ العليا أو أية مجموعة من ردود الفعل مهما بلغت من التعقيد بما يقوم به العقل وبأداء جميع وظائفه أمر محال تماما ، بل انه يؤكد على أن تفسير العقل على أساس النشاط العصبي داخل الدماغ سيظل أمرا مستحيلا كل الاستحالة ، ولذلك نراه يقول بأنه اقرب إلى المنطق أن نقول إن العقل ربما كان جوهرا متميزا ومختلفا عن الجسم .

هكذا يستنتج العلماء في نظرتهم العلمية الجديدة في القرن العشرين بعد أن طغت وحدة عميقة بين العلوم ( ففي القرن العشرين تلتقي الفيزياء ومبحث الأعصاب وعلم النفس الإنساني عند المبدأ نفسه ، عدم قابلية إرجاع العقل إلى مادة وأولية العقل تربط نظرية النسبية بميكانيكا الكم ، وبحوث الدماغ بالانفجار العظيم وشدة القوى النووية بحجم الكون )[14] .

على أن البحث العلمي لهذه العلاقة والمقاربة بين الدماغ والعقل والمخ والفكر قد تطور أكثر بعد أن تقدمت بحوث البيولوجية الجزيئية فأعيد طرح المفهوم المادي الفيزيائي- الكيميائي كتفسير لنشاط الدماغ الذي ينتج العقل وخرجت فلسفة من هذا الطرح تقوم على رد كل شيء إلى مجموعة التفاعلات الكيميافيزياوية، هذه الفلسفة دعيت بفلسفة ليس إلا وخير من يمثلها العالم الفرنسي الحائز على جائزة نوبل بالبيولوجية الجزيئية ومدير معهد باستور في باريس جاك مونود حيث يعبر عن هذا الاتجاه بقوله ( من البكتيريا إلى الإنسان ، تكون الأجهزة الكيميائية من حيث الأساس هي ذاتها في كل من تركيبها وأداء وظائفها ...إن الكائنات الحية مكائن كيميائية وكل الأنظمة العضوية قابلة كليا للتفسير بلغة التفاعلات الكيميائية المحدودة )[15] .

ويفسر -جي زد يونغ-العقل على ضوء هذه المعطيات بالقول ( أن مفاهيم كالعقل والوعي وحتى التفكير وكل التعابير التي تشير إلى احساسات وتجارب ذاتية هي قطعا زائدة أو غير ضرورية، وأن كل ما يسمى بالظاهر العقلية يمكن وصفه بشكل كامل بلغة النشاط الفيزيائي –الكيميائي في الدماغ ، وان الدماغ نفسه يقلص إلى كمبيوتر مفصل له أجزاؤه العصبية بدءا من الترانزستور والأجزاء المعدنية )[16]

إن الواقع النهائي في نظر مونود ليس إلا تفاعل فيزيائي كيميائي في الجزيئات والذرات والجسيمات الأولية، وإذا كان العقل لا يستطيع أن يكون أكثر من اضطراب في الخلايا العصبية في قشرة الدماغ كان من الأفضل -كما يقول جون لويس-حذف الكلمة ذاتها وينبني على ذلك أن التفكير بما فيه تفكير مونود نفسه الذي يقوم بهذه الاكتشافات ويبشر بهذه المسألة لا يمكن وصفه بأنه حقيقي إذا كان يتألف من تفاعلات جزيئية فقط لان أي رد فعل كيميائي في خلية عصبية في قشرة الدماغ لا يستطيع أن يؤكد أي شيء.

وهذا يعني التخلص من العقل والتفكير بما يعنيه من تخلص عالم التثمين الفكري والرسم والأدب والموسيقى حيث يصبح كل ذلك وهميا وظاهرة ثانوية كليا .

فالهدف في نظر مونود ليس له معنى لان العقل ليس أكثر من عمليات فيزيائية -كيميائية ، ولما كانت العمليات العقلية مجرد كيمياء الخلايا العصبية في قشرة الدماغ فهي لا تستطيع خلق هدف .

إن القول بهذه الردية ينفي القيم والواجب والحقوق والفن والدين لان كل شيء إنما هو مادة في حالة تفاعل فيزيا-كيماوي فقط ولا هدف لها .

الصفحات