أنت هنا

قراءة كتاب طريق الجنوب

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
طريق الجنوب

طريق الجنوب

كتاب " طريق الجنوب " ، تأليف عثمان أبو غربية ، والذي صدر عن دار الجندي للنشر والتوزيع

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
دار النشر: دار الجندي
الصفحة رقم: 1

الأمواج الهادئة

أخذت الطريق تتعرج في صعودها المنحنيات الجبلية، وأصبح انحناؤها يحتد أحياناً مع أن الجبال لم تكن شديدة الارتفاع.

شعرت أن هذه الطبيعة مألوفة لي، الجبال نفسها، التربة الطينية الحمراء، أشجار الزيتون، التين، الكروم، شجيرات السويد والزعرور، الزحيف، بقايا النباتات الصيفية، الجدران الحجرية المتراصة من حجارة أجيد تركيبها. إنها ملامح فلسطين، وطني!.

اندلعت عاصفة من الحنين والذكريات، عبرت بقلبي، توهج الجمر المقدس، كدت أتخيل نفسي وأنا في هذا الطريق بين مدينتي لارنكا وليماسول من جزيرة قبرص، وكأنني في إحدى مناطق فلسطين.

هل هي الطبيعة الواحدة لحوض المتوسط؟! ربما، حتى هذا الهواء الخريفي المعتدل، وشمس ما بعد الظهيرة، يأخذاني بعيداً في عمق الذاكرة.

غادرت فلسطين آخر مرة في عام ألف وتسعمائة وسبعة وستين، بعد أن دخلت إليها متسللاً عبر نهر الأردن، الذي قطعنا إحدى مخاضاته في عز النهار، ما زلت أذكر تفاصيل تلك اللحظة مع أنها لم تكن مثيرة أو حتى محفوفة بالمخاطر كغيرها. فقد اتجهنا بعد عبورنا النهر نحو قرية العوجا القريبة من مدينة أريحا في منطقة الغور، شاهدت أنا ورفاقي طائرة مراقبة صهيونية تحوم فوقنا، كانت أرضاً رملية جرداء منبسطة. لا بد أنها لاحظتنا، فبعد أن اقتربنا من القرية ميزنا غباراً أثارته من بعيد عجلات سيارة عسكرية صهيونية، فاختبأنا في إحدى المزارع التي أصبحت بمحاذاتنا. مرت السيارة العسكرية باتجاه النهر، غادرنا مخبأنا وتمكنا من دخول قرية العوجا، حيث قضينا تلك الليلة فيها.

هذه هي المرة الثانية التي أتسلل فيها عبر قرية العوجا، فلم تكن سلطات الاحتلال قد أحكمت في ذلك الوقت سيطرتها على معابر ومخاضات نهر الأردن، على الرغم من تعمدها قتل الكثيرين من الأبرياء العائدين إلى ذويهم. سقط الكثيرون قرب نهر الأردن من الذين لم يجدوا بعد الحرب سوى النهر معبراً للعودة إلى أطفالهم أو زوجاتهم أو أمهاتهم.

وصلت مدينة الخليل مشياً على قدمي، أذكر أنهما كانتا داميتين عندما ساعدتني شقيقاتي على خلع حذائي المطاطي. مكثت في المدينة حوالي أسبوعين، صعدت أثناءها إلى منطقة نائية وعرة كي التقي بمجموعات من أصدقائي الشباب الذين أصبحوا فدائيين.

لقد عثر هؤلاء الشباب الوطنيين الذين جاش في صدورهم إرهاص الثورة على ما ينضوون تحت لوائه، وتجمع بعضهم في قواعد سرية انتشرت تلك الفترة في كثير من المناطق المواتية داخل الأرض المحتلة من بينها هذه القاعدة في واد وعر مشجر، يقع على سفح أحد الجبال الشاهقة في الخليل. ما أروع جبال الخليل الشامخة، وما أبهى حلل كرومها الخضراء. لن أنسى ما حييت لحظات وداعي لها بعد أن اشتد من حولي طوق التفتيش والمطاردة، وبعد أن أصبح ضرورياً أن أتابع خطوات تنظيم علاقتنا بخارج الأرض المحتلة، وهي المهمة التي كنت أقوم بها.

غادرت الخليل وقلبي ينجذب إليها أكثر من أية مرة سابقة، عاهدت جبالها، عاهدت طيفها الجميل أن استمر في النضال من أجل وطني.

تأملت الكروم الخضراء على مشارف بلدة حلحول ساعة ذلك الفجر الندي، وكأني أعاهد كل ذرة تراب، شعرت برهبة العهد تستقر في أعماقي وأنا في محراب الخشوع الروحاني الغامر. لقد شعرت بأعمق وأقوى تصميم على الوفاء والصدق.

فاض الحنين بقلبي، كنت أودع مدينتي ووطني، وفي ذات اللحظة تدفقت في زوايا القلب اليافع تراكمات من المشاعر الخاصة تركتها مراحل الصبا لهيباً دافئاً، ملأت الخيال بصورها، وجعلتني أشعر وكأن قطعة من روحي غادرت جسدي.

بقيت هذه الصور قمراً وردياً في سماء خيالي، وحلماً جميلاً يراود حياتي حتى هذه اللحظة، وبقي الحلم نداءاً يحرك أشواق الذاكرة ولا يبدده واقع الحياة. ما أحلى ذلك الحلم يختلط فيه الحنين إلى الوطن بوجيب الفؤاد، ويرسم قلبي وذكرياتي وصورة وطني في لوحة واحدة.

لم أعد أنتبه إلى الطريق الذي ردني إلى لحظات كثيفة المشاعر، سوف تبقى حية في جدران روحي ما دام في جسدي رمق من حياة.

وثب فؤادي مثل غزال يبحث عن مدى، أو مثل قبرة بلون الأرض، وذهب وحده بعيداً.. واشتعل الضوء المقدس ليغمر زوايا المعبد، واستيقظ الجمر الإنساني متقداً ودافئاً، يستل لون الشفق من غمد البحر.

لعلني أفقت من الحلم الذي بعثر فؤادي، لقد مضى على آخر مرة شاهدت فيها وطني قرابة تسع سنوات كرست كل نبض فيها من أجله، هو الفردوس الذي وعدت نفسي به والذي لا أتصور مصيري من دونه، أنني رجل حالم يمتلئ بالطموح، ولا أشعر وأنا أحلق وراء حلمي بأي خيط يشدني إلى الحياة خارج انتمائي إلى تلك البقعة النورانية المقدسة من الأرض.قد يكون للمرء أن يختار انتماءه حينما يكون الانتماء ارادياً، ولكن ثمة نوع من الانتماء غير الإرادي، يسكن الإنسان قبل مولده، ويصبح من مكونات ذاته التي لا يستطيع أن يفر منها مهما تراءى له غير ذلك. فالإنتماء حاجة من حاجات التبلور الذاتي للإنسان، وتجسيد للذات الفردية والجماعية في آن واحد، وحافز من حوافز التحدي والعمل.

الصفحات