أنت هنا

قراءة كتاب لذة النص وبهاء القراءة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
لذة النص وبهاء القراءة

لذة النص وبهاء القراءة

كتاب " لذة النص وبهاء القراءة " ، تأليف د.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 4

ومن جانب آخر يشكل تكرا استحضار صورة العنوان الإيقاعية والدلالية عبر شرايين القصيدة من أولّها إلى آخرها، تعميقا للبعد الواقعي الذي لا يريد له الشاعر أن يضيع في خصم انشغالنا برهافة التمثل الجمالي لوهج الخطاب الشعري، فضلا عما يكمن في العنوان من تجلٍ واضح «لجوانب أساسية أو مجموعة من الدلالات المركزية للنص»(3)، زد على ذلك أن العنوان المتكرر «لا تصالح» بمثابة (اللازمة) التي تستند مع بقية أجزاء النص إلى وصية كليب التي كتبها بدمه على صخرة وفق ما ترويه الحكاية الشعبية؛ لذلك يشكّل العنوان ستارا أحمر تبدو من خلاله أحداث كل فصل من فصول المسرحية (القصيدة).

ولعل تجليات الدم بأبعادها الدلالية والأسلوبية تكتمل تأسساتها بما تضفيه على النص من تأثيرات إيقاعية مميزة من خلال قافية الميم التي تصنع - عند الوقف عليها - إيقاعا مشابها لإيقاع طبول الحرب (الدرمز) (Drums)، وتتضح ضخامة هذه الإيقاعات وسيطرتها على جو النص حين نعلم ان (الدم) يغرق المكان ويسيطر على كل شيء:

]سيقولون:

جئناك كي تحقن الدم.

جئناك. كن - يا أمير - الحكم.

سيقولون

ها نحن أبناء عم

قل لهم: إنهم لم يراعوا العمومة فيمن هلك.

واغرس السيف في جبهة الصحراء..

الى أن يجيب العدم [

فالدم يطغى على المكان، والقبيلة تتوجه للأمير ليكون بطل هذه المسرحية؛ فيوقف سيلان الأحمر القاني وينهي آخر فصولها، إنهم يسعون الى الصلح... لكن الدم لا تتوقف تحولاته. وتغلغلاته في ثنايا المكان، فحتى لو توقف كمادة لغوية تجسد دلالة واضحة ومباشرة، فإنه لم يتوقف على أصعدة أخرى مثل ارتباطات لغوية وثيقة الصلة، من ذلك (الهلاك - وغرس السيف – والعدم). وأيضا يستمر الأثر الإيقاعي لقضية (الدم) متناسلا من خلال كلمات يتناسل منها الإيقاع نفسه، مثل (الحكم – عم – عدم)، وفي هذا النص بالذات أجد ما أشار إليه فاروق شوشة من قدرة الشاعر أمل دنقل على (تطويع الايقاع والرنين الشعري)(4) في أشد حالاته تحققا وتمثّلا.

فالدم (المادة الطبيعية / والمادة اللغوية) مسيطرة على مساحة كبيرة من الديوان. وحين نلتفت إلى الصورة الإيقاعية تتضاعف وتتزايد سيطرة المشهد الدموي من خلال بروز أكبر وأضخم لأجواء الحرب المنبثقة من موسيقى مفردة (الدم) وتكراراتها، ومن تنويعات (البحر المتدارك) فاعلن – فعلن – فاعل...، فالناحية الإيقاعية تنقل إلى أسماعنا مشهد الحركة السريعة، والمتوالية الصوتية من خلال جرس الميم، مما يكشف لنا طبيعة الانفعال الذي يضغط على الشاعر، الأمر الذي لا يسهل على اللغة الشعرية إنجازه إلا بتوفر تلاحم وتعاضد عضوي بين مستويات النص وطبقاته من معجم، ودلالة، وإيقاع... وهذا الأخير «موجود داخل اللغة، وداخل الخطاب، فهو تنظيم (ترتيب وتجل) للخطاب. وبما أن الخطاب غير منفصل عن معناه فإن الإيقاع غير منفصل عن معنى هذا الخطاب. إن الإيقاع تنظيم للمعنى داخل الخطاب»(5) وهو تنظيم قائم على فهم المبدع لطبيعة الصراع بين انفعالاته النابعة من موقف فكري وسلطة للغة التي لا تعد ملكا للشاعر أو المتلقي، مما يجعل الشاعر يحتال عبر تقنية الإيقاع، فضلا عن الصورة، من أجل الوصول إلى جو الانفعال نفسه الذي يحسه الشاعر، وهي مهمة صعبة كما يرى هيجل، فعبر الإيقاع يقوم الفنان «بترنين الحياة الكامنة للأصوات أو اختيار كلمات وتمثلات لغمرها في هذا الجو ولاستحضار شعور بالتعاطف حيالها» (6).

ولعل هذا الترنين وهذا التوقيع يشكل ملمحا أساسيا من ملامح الحداثة الشعرية في إبداع أمل دنقل التي يلجأ فيها إلى «إحالة الدلالة على الجانب الصوتي الموسيقي..ليصيح وقع الكلمة موسيقيا هوة مناط إيقاعها الدلالي» (7).

كما أن المتدارك اسم لا يخلو من دلالة في ذهن الشاعر، فلربما اختاره أمل دنقل للتعبير عن ضرورة تدارك خطأ تاريخي قد ترتكبه الأمة العربية، وفق وجهة نظر مبنية على الواقع ومعطياته، وهي ما قد يشاركه فيها قطاع عريض من جماهير هذه الأمة... لذلك شكلت صيغة النهي «لا» لافتة عريضة في عنوان القصيدة وعتبتها الأساسية (لا تصالح).

وإلى جانب البعد السياسي في النص، تتظافر دلالات اجتماعية وإنسانية للعمل على زيادة مساحة مشهد الدم (الحربي/ والثأري) من خلال استحضار مشاهد أخرى من العلاقات والأواصر الدموية:

بين الأم وطفلها........... [ لتأنيب أمكما ]

وبين الأخ وأخيه.......... [ أقلب الغريب كقلب أخيك؟... أعيناه عينا أخيك؟.. ]

وبين أبناء العمومة........ [ قل لهم إنهم لم يراعوا العمومة فيمن هلك ]

وبين العم وابنة أخيه... [ إن بنت أخيك اليمامة زهرة تتسربل – في سنوات الصبا بثياب الحداد].

ولعل هذه العلاقة الأخيرة هي الأشد تأثيرا في سياق النص كله؛ ولهذا نجد حضور ابنة الأخ (اليمامة) في عالم عمها (الزير سالم) حضورا طاغيا استثمره الشاعر استثمارا فنيا جيدا؛ لصياغه تقنيات فنية تعمق المستوى الجمالي للنص، ومن ذلك بروز مستويات الحوار والدراما (الخارجية والداخلية)، وتوظيف (الفلاش باك). فصوت مثل:

[ إن بنت أخيك اليمامة

زهرة تتسربل – في سنوات الصبا-

بثياب الحداد... ]

فهذا صوت على لسان راوية (غائب)، يتم تحويله مباشرة وتحويل زمنه لينتقل الخطاب من حقل الزمن الحاضر حيث سنوات الصبا، وثياب الحداد/ زمن ضياع الشباب، وزمن الحزن والهزيمة.... وهي معطيات تروى على لسان غائب (ربما كان المغدور (/ إلى حقل الزمن الماضي حيث:

[ كنت، إن عدت:

تعدو على درج القصر

تمسك ساقي عند نزولي

فأرفعها – وهي ضاحكة –

فوق ظهر الجواد... ]

ونلاحظ أن معطيات هذا الزمن تتضمن معاني نقيضة للزمن الآخر، فهنا نلاحظ دلالة الفرح والحيوية والضحك، وكل ذلك يروى على لسان متكلم (عدت... كنت...) لا غائب. فهذه المراوحة بين الزمنين، والمقارنة بينهما تدعونا لاختبار الفكرة الزمنية الكلية في هذا الديوان

(أقوال جديدة عن حرب البسوس)، وهي الفكرة القائمة على جعل الماضي مرآة للحاضر، والعكس صحيح، بمعنى أن حرب البسوس كانت قدرنا، فلم نهرب من قدر أجدر بنا اليوم أن نواجهه ونتعامل معه؟! ولعل الشاعر كان قادرا على قول ما يريد بطريقة شعرية مغايرة، ولكنه آثر الاتكاء على التراث بأسلوب حداثي يساير فيه حداثة الشعر العربي المعاصر، محولا «القصة السردية إلى حدس شعري أو معادل للحقيقة (لتتصل) صورة التراث في الشعر بالنظرة العربية الحديثة له، وهذه النظرة تشغل حيزا من اهتمام المفكرين العرب لأن القضية متصلة بالوعي القومي العربي»(8). وهي كذلك عند الشاعر، ولكنه - بصفته رائيا - لا يسلّم فنه وأدبه لجماليات القصة التراثية وإيحاءاتها، وإنما يفضل -دائما- أن يكون هو سيد الموقف الشعري وصانع جمالياته الخاصة. ومن هذا القبيل استخدامه (لصيغ الاستفهام) التي تزخر بها قصيدة (لا تصالح) والتي تشكل واحدا من أبرز تجليات الهاجس التحولي، إذ يشكل هذا الاستفهام أنماطا عدة من التحولات على مستويات: - الإنسان، واللغة، والمعرفة، والزمان، والمكان...

الصفحات