أنت هنا

قراءة كتاب الحكم العطائية شرح وتحليل - المجلد الثالث

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الحكم العطائية شرح وتحليل - المجلد الثالث

الحكم العطائية شرح وتحليل - المجلد الثالث

كتاب " الحكم العطائية شرح وتحليل - المجلد الثالث " ، تأليف محمد سعيد رمضان البوطي ، والذي صدر عن

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 1

الحكمة الحادية عشرة بعد المئة

«الغافل إذا أصبح ينظر ماذا يفعل،

والعـاقـل ينـظر ما يفـعل الله بـه»

كان المفروض أن يعبر عما يقابل العاقل بـ: الغبي أو الساذج مثلاً. ولكنه عبر عما يقابله بـ: الغافل، كما ترى. فلماذا؟

والجواب: لأن مراده بالعاقل من يحكّم عقله في حقائق الأمور، ويستعمله في فهمها وإدراكها على ما هي عليه. وإنما يقابله، بهذا المعنى، الغافل. إذ الشأن فيه أنه ذاهل عن استعمال عقله منصرف عن تحكيمه في حقائق الأمور وعن السعي به للوصول إلى كنهها ولإدراكها على ما هي عليه.

وهذا يدلّك على أن كلا الرجلين يتمتعان بالعقل، ولكنّ أحدهما جادٌّ في استعماله مخلص في التعامل معه، والآخر مهمل له، لا يلجأ إليه إلا لينجده في تحقيق أهوائه وتذليل رغباته. فهو فيما وراء ذلك مهمل له، أي فهو غافل عنه وعن المسائل والأمور الأخرى التي لا يهمه شأنها.

إذن فصنيع ابن عطاء الله هذا (إذا أراد بالعاقل ما قد ذكرته لك، ومن ثم قارنه بالغافل) يردّ استشكال من قد يقول: ولكن الدنيا مليئة بالعقلاء والأذكياء الذين لا ينظر أحدهم إذا أصبح ما يفعل الله به، بل ينظر، كما ينظر الغافل، ماذا يفعل، أجل.. إن صنيعه هذا يردّ هذا الاستشكال ويجيب عنه بأن هؤلاء العقلاء والأذكياء غافلون عن الاهتمام بما لا غرض لأهوائهم به، معرضون عما يرون أن لا مصلحة لهم بالنظر أو التفكير فيه، فهم لا يُعملون عقولهم فيه على الرغم من أنهم يتمتعون بها.

* * *

والآن.. لاحظ الدقة التالية في كلام ابن عطاء الله:

يقول عن الغافل: إنه ينظر ماذا يفعل، ويقول عن العاقل: إنه ينظر ما يُفعل به. استعمل كلمة «ينظر» في الحالتين، بدلاً عن كلمة «يقول» فلماذا؟ لماذا لم يصغ حكمته هذه بالعبارة التالية: الغافل إذا أصبح يقول: ماذا أفعل، والعاقل إذا أصبح يقول: ماذا يُفْعَل بي؟!..

والجواب أن المسألة هنا تتعلق بالاعتقاد، لا باللفظ والعبارة، أي إن المطلوب من المسلم أن يعلم أنه لا يستقل بأمر نفسه في حال من الأحوال ولا فعل من الأفعال ولا في حركة أو سكون، وإنما هو مقود في كل ذلك بقرار الله وقضائه، وبعونه وتدبيره.

فإذا علم المسلم ذلك واستيقنه، فلا حرج، عند التعبير والبيان أن ينسب إلى نفسه الفعل مخبراً عن الماضي أو المستقبل، بأن يقول: فعلت كذا، أو سأفعل كذا، ولا ضير في أن يخطط لما هو مقبل عليه من شؤونه وأن يضع لنفسه المنهاج الذي يريد، وأن يعلن عن التزامه به وعزمه على تنفيذه. بل هذا هو المطلوب من حال المسلم وشأنه. وتلك هي سيرة رسول الله في تقلباته وأعماله.. ولو لم يصح من المسلم أن يعزم بصريح القول على الأفعال والتصرفات التي يريد أن يقوم بها، لما صح أن يطالبه الله بالأفعال التي أمره بالقيام بها، من صلاة وصوم ونسك وجهاد ونحو ذلك.

إذن فلا حرج في أن يقول المسلم إذا أصبح: سأفعل اليوم كذا، ولكن يجب على كل مسلم أن يعلم أنه إذ يقول ذلك مقرراً النهوض بأعماله وشؤونه التي عزم على القيام بها، إنما يمارس من ذلك القدر الذي متعه الله به، وهو العزم النفسي على الشيء. وهو ثمرة اختيار متع الله به الإنسان، فهو يملك أن يتوجه بقصده الاختياري إلى ما يشاء من التصرفات والأعمال. أما التنفيذ الفعلي له فيتوقف على أن يوفقه الله له بأن يقدره على النهوض به، وبأن يمنع العوارض والموانع التي قد تعوقه عنه، وبألاّ يكون في قضاء الله ما يخالف اختياره وعزمه.

وبالجملة فإن العبد إذ يتجه إلى فعلٍ ما، لا يملك تجاهه إلا القصد إليه والعزم عليه، أما المبادرة إليه بالتنفيذ فإنما تكون بخلق الله له.

إذن، فليس المهم في هذا الأمر العبارة التي تدور على اللسان من مثل كلمة «سأفعل» وإنما المهم العقيدة التي ينبغي أن تستقر في العقل.

فمن أجل ذلك حاد ابن عطاء الله عن كلمة «يقول» واستعمل بدلاً عنها كلمة «ينظر» وإنما أراد بها النظر الفكري والاعتقادي.

أي إن العاقل، وإن قال: سأفعل اليوم كذا، فإنه يعلم جازماً أنه لا يملك من الفعل الذي يعنيه إلا القصد إليه والعزم عليه، أما التنفيذ فمتوقف على حكم الله وقضائه ومعونته وتوفيقه، ومن ثم فهو ينظر بعقله إلى ما يفعله الله به تجاه الأمور التي عزم عليها وقرر القيام بها.. أما الغافل فهو الذي لا يدري هذه الحقيقة، ومن ثم فهو ينظر إلى الفعل الذي عزم عليه على أنه هو المستقل بشأنه، والمتمكن من النهوض به، وعلى أنه هو المتسلّط على أفعال نفسه بما يملك من قدرة وتنفيذ وتدبير.

الصفحات