أنت هنا

قراءة كتاب الحكم العطائية شرح وتحليل - المجلد الثالث

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الحكم العطائية شرح وتحليل - المجلد الثالث

الحكم العطائية شرح وتحليل - المجلد الثالث

كتاب " الحكم العطائية شرح وتحليل - المجلد الثالث " ، تأليف محمد سعيد رمضان البوطي ، والذي صدر عن

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 9

الحكمة الرابعة عشرة بعد المئة

«علم أنك لا تصبر عنه، فأشهدك ما برز منه إليك»

هذه الحكمة ليست أكثر من تأكيد للتي قبلها. وربما انطوت على تفسير وبيان لجانب منها.

قال لك هناك: أمرك في هذه الدار بالنظر في مكوَّناته ثم فسر هذا الأمر هنا بقوله: علم أنك لا تصبر عنه.. إلخ، لتعلم أنه أمر إرشادي وجهه الله إليك لطفاً بك وتحبباً إليك، أكثر من أن يكون أمراً تكليفياً تنفيذاً لواجب.

والحقيقة أن الأمر الصادر من الله بالنظر في مكوَّناته يختلف معناه حسب حال المخاطب من حيث صلته بالله عز وجل. فالناس التائهون عن الله، الغافلون عنه برغائبهم وأهوائهم، والمعرضون عن آيات وجوده ووحدانيته وباهر صفاته، يتجه إليهم هذا الأمر على وجه التكليف، ليفيقوا من غفلتهم، وليذكروا الله من خلال التأمل في سطور المكونات، وما تنطق به من آيات وجوده ودلائل حكمته وعظيم سلطانه.

أما الذين عرفوا الله فأحبوه وأكثروا من مراقبته وذكره، وحركهم الشوق إلى رؤيته، فإنما يتجه إليهم هذا الأمر على وجه الإرشاد إلى السبيل الذي يعينهم على الصبر عن رؤيته في حياتهم الدنيا هذه، ألا وهو النظر إلى ما قد برز لهم منه، من بديع آثاره، ومظاهر حكمته وإحسانه وجماله. فإن ذلك سيؤنسهم به وإن لم يرده، ولسوف يشهدونه فيها، أي في تلك المظاهر، وإن كانت تشوِّقهم إليه.

وقد علمت أن ابن عطاء الله إنما يخاطب بهذه الحكمة والتي قبلها، هذا الفريق الثاني من الناس، فهم الذين يصدق عليهم أنهم لا يصبرون عنه؛ أما عامة الناس، فيغلب أن تشغلهم دنياهم ورغائبهم عن الله، وإن كانوا مؤمنين به بعقولهم وقناعات أفكارهم؛ فإن صدق على هؤلاء أنهم لا يصبرون، فعن الدنيا وشواغلها؛ وإن صدق عليهم وصف الحنين والاشتياق فإنما ذلك إلى رغائبهم وأحلامهم الدنيوية التي حيل بينهم وبينها.

إن في إشهاد الله عباده ما برز منه لهم من مكوَّناته، تذكرة وإيقاظاً لعباده الغافلين، وتمتيعاً وإيناساً وسلوى لعباده المقربين، وإن في ذلك لحكمة بالغة، ورحمة عميمة لكلا الفريقين.

فاحرص أن يكون إشهاد الله ما برز من مكوناته لك، إيناساً لك بذاته، وسلوى عن حرمانك من رؤيته في هذه الحياة الدنيا، وألاّ يكون ذلك علاجاً لأمراض غفلتك، وإيقاظاً لك من ضلالك وتيهك.

ولكن إن قضى الله أن تكون من الفريق الثاني، تائهاً عن ذاتك، محجوباً عن الله بالركون إلى لهوك وشهواتك، فاحرص على أن تلتفت باليقظة والاعتبار إلى ما ينبهك الله إليه من دقيق صنعه وبالغ حكمته وباهر صفاته، في كل ما يلوح لك من مكوّناته ومخلوقاته العلوية والسفلية وما بينهما. وجاهد نفسك أن توقظها من نومة الغافلين، حتى ترى الله بكل ما هو موصوف به من صفات الكمال، في مرآة مكوناته. واتخذ من كتاب الله حافزاً لك إلى هذه اليقظة، وآخذاً بيدك إلى حيث ترى الله من خلال موجوداته.

فإذا عدت إلى كتاب الله، فتدبر معانيه ولا تجعل حظك منه ترديد كلماته وألفاظه، وتأمل بعين عقلك في هذا الذي يقوله الله لك: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 2/164] .

فإن ألزمت نفسك بذلك، فلسوف تتجاوز حال الغفلة والضياع عن ذاتك وربك، إلى صعيد الهداية والعرفان، ولسوف ترقى بك مرحلة معرفة الله، إلى مرحلة حبه والاشتياق إلى رؤيته وشهوده.

فإذا عدت عندئذ إلى ما يشهدك الله إياه من رائع صنعه ومكوناته، فلسوف تجد فيها حينئذ ما يؤنسك بالله، ويسليك عن ألم اشتياقك إليه، ويعينك على الصبر عن رؤيته، ريثما تنتقل إلى رحابه، ويكشف عنك غطاء كينونتك الترابية، ومظاهر ضعفك البشري.

وعندئذ يرقى بك الحال إلى الفريق الثاني الذي يخاطبه ابن عطاء الله بحكمته هذه قائلاً: «علم أنك لا تصبر عنه، فأشهدك ما برز منه إليك».

الصفحات