أنت هنا

قراءة كتاب دور الدين في المجتمع

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
دور الدين في المجتمع

دور الدين في المجتمع

كتاب " دور الدين في المجتمع " ، تأليف د.

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
الصفحة رقم: 10

الدين و العلمانية و التحديث

عرف الإنسان الدين في وقت مبكر من بناء نمط من أنماط الاستقرار. وعندما بنى القرية ومن بعدُ المدينة اتخذت المعابد مكانة هامة من حيث موقعها في داخل نمط الاستقرار، ومن حيث طريقة بنائها، وزخرفتها، والتماثيل المرتبطة بها. كان هذا شأن الديانات القديمة، لذلك بقيت المعابد أهم شاهد على حضارات سادت ثم بادت. ارتبط التطور المعرفي بالحضارة، فالحضارة لم تنشأ من فراغ، بل كان للفكر وللعلم فيها مكانة عالية، لكن تميز الدين على العلم في أن الدين يأتي كاملاً؛ عقائد وقيماً وأنشطة، يأتي كاملاً من حيث اعتماده على ما جاء به المبشر بالدين من تعاليم وعبارات سجلها المحيطون به في الذاكرة، ثم سجلت مكتوبة فيما بعد، ويأتي كاملاً من حيث أن مادته عبارة عن حقائق مطلقة، وعلى التابعين الإيمان بها كلها، والابتعاد عن التشكيك في أي جزء منها، ويأتي كاملاً بمعنى أنه لا يقبل الزيادة أو التعديل. لكن المعرفة العلمية بدأت بسيطة وأخذت تنمو، وكان النمو بطيئاً، بل كان يتعرقل ويتوقف، ويستمر التوقف لقرون، لذلك اضطر المفسرون للدين لتقديم أجوبة لأسئلة كبيرة ورئيسة أخذت شكل التفسيرات الغيبية، والبحث عن السبب في قوى خفية وغير مرئية. وجد أفراد حاولوا استخدام العقل لتفسير ما يشاهد من أحداث وظواهر في كل عصر وفي كل مجتمع، لكن كلما عجز المرء عن إيجاد تفسير عقلي رجع إلى الموروث الثقافي يستخرج منه ما تيسر له، وهنا يكون للمعتقد الديني دور هام وحاسم.

في كل مجتمع ظهر فيه دين تخصص أفراد في تفسير النصوص وشرح الفروض والطقوس وحث الناس على الطاعة، قام هؤلاء بدور المعلم. وفي المناطق القروية التي تخلو من مظاهر التعليم، وخلال عصور الانحطاط الفكري كان رجال الدين هم وحدهم المتعلمون والعارفون، لذلك قام رجل الدين في القرية مهما تدنت كمية معرفته بدور المرشد والعارف، يرجع إليه المواطنون في تلك البقعة من الأرض في كل أمر، يقدم النصيحة المبنية على التجربة، كما يقدم الفتاوى المرتبطة بثوابت الدين. قد تكون النصيحة مفيدة وفي محلها لاعتمادها على مخزون من التجارب والأحداث، لكن الشيء نفسه قد لا يتوافر في حالة الفتوى. ولأن الحالة الأخيرة مرتبطة بالدين فتحاط بهالة من القدسية، ويصبح الامتثال لها في حكم الأمر النهائي. حدث الشيء نفسه في المجتمعات التي مرت بمراحل انحطاط، وهي مراحل لم ينج منها مجتمع، بما في ذلك تلك التي بنت حضارات ذات شأن كبير. لذلك حصل رجال الدين على احترام المحيطين بهم، ومن ثم خصصت لهم مكانة اجتماعية عالية نسبياً. وشيئاً فشيئاً أصبحت المؤسسة الدينية إحدى أهم مؤسسات المجتمع التي تحدد حالة التوازن الاجتماعي فيه.

تمثل حالة أوربة المسيحية في القرون الوسطى نموذجاً واضحاً للدور الذي قامت به الكنيسة خلال سنوات بحيث أصبحت إحدى أهم مؤسسات المجتمع. وكما هو معروف انقسم المجتمع الأوربي - خلال العصور الوسطى - إلى فئتين رئيسيتين: فئة العاملين في الأرض بهدف توفير الغذاء والكساء وما يتعلق بهما من أعمال خدمية، وفئة الحكام والنبلاء التي تهتم بالانخراط في أنشطة بهدف الدفاع عن وطن، أو ضم أراضٍ إلى وطن، ويملك أعضاء هذه الفئة الأرض ومن يعيش فوقها من بشر وحيوانات. الفروق بين هاتين الفئتين أو الطبقتين واضحة وشاسعة ومقننة، رجال الحكم والنبلاء يملكون إقطاعيات كبيرة، ويتمتعون بمستوى معيشة عالٍ، أما الفلاحون ومن في حكمهم فيعملون في الأرض أو في الخدمات المتوافرة آنذاك، ولا يملكون أرضاً ولا مدخرات ذات بال، مهمتهم خدمة السيد الذي يعيشون في إقطاعياته، متكيفين مع حياة الكفاف. ولكي يرضى أعضاء كل فئة بما وجدت فيه نفسها من حال، كان لا بد من سلطة تسوغ هذا الوضع، وتضفي عليه الشرعية. قامت المؤسسة الدينية (الكنيسة) بهذا الدور بعد أن رضيت لنفسها بحالة التراتبية الطبقية، لذلك انقسم رجال الدين إلى طبقتين متباينتين؛ تضم العليا كبار الكهنة الذين يتمتعون بالسلطة والثروة، وأما السفلى فهي بقية أعضاء الكنيسة الذين تخصصوا في القيام بمختلف الأعمال الخدمية. لابد من الإشارة إلى أن المؤسسة الدينية وجدت في مرحلة تاريخية سابقة لظهور المجتمع الإقطاعي الأوربي، فهي أقدم من النظام الاجتماعي الذي ساد أوربة خلال القرون الوسطى. وقامت خلال كل عصر - إلى جانب مهامها العادية - بدور يتناسب وطبيعة المرحلة. تولت المؤسسة الدينية منذ البداية مهمة تنظيم بعض أنشطة الفرد وإرشاده، ولكي تضمن مكانة مرموقة اضطرت في بعض الأحيان إلى موالاة السلطة السياسية، لذلك دخلت أيام سيادة الإقطاع في علاقات خاصة مع السلطة أو الطبقة العليا. وجدت الكنيسة في تعاونها مع السلطة تضخيماً لمكاسبها، ووجدت السلطة أن الكنيسة يمكن أن تؤدي إلى جانب مهامها التقليدية مهام ذات قيمة عالية تتمثل في إقناع أعضاء الطبقة العاملة بتقبل دورهم بنصيبهم الدنيوي، وأن التفاني في العمل سيعود عليهم بالخير إذ يحصلون على رضا الإله مما سيضمن حياة سعيدة في الآخرة. نعمت بعض أجزاء أوربة خلال العصور الوسطى بدرجة من الاستقرار ساعدت على تنشيط التجارة بين أجزاء أوربة وبينها وبين بقية المناطق المجاورة في قارتي آسية وإفريقية. ساهم هذا النشاط في ظهور جماعات جديدة تخصصت في مجالات عمل بعضها عرفها الإنسان في عصور سابقة، والبعض الآخر جديد قديم وأخرى من أصحاب الثروة. كما ساهم هذا النشاط في نمو المدن وتكاثر أعداد سكانها، وظهور مجالات عمل جديدة شملت المهنيين والفنيين والمثقفين.. إلخ. نجح بعض هذه الجماعات - وخصوصاً الذين اشتغلوا بالتجارة - في تكوين ثروات مكنتها من تكوين طبقة اجتماعية جديدة، دخلت في صراع مع الفئات التقليدية على السلطة. ثم جاء زمن ضعفت فيه طبقة الإقطاعيين تاركة المجال لطبقات اجتماعية، عليا ومتوسطة وسفلى. لم تخسر الكنيسة دورها في النظام الاجتماعي الجديد بل حافظت على مركزها المتميز. ساهمت في هذا عوامل أهمها: التاريخ الطويل نسبياً، واستمرار الدور التقليدي في توجيه وإرشاد الناس، والمكانة الثقافية لرجال الدين حيث كونوا - خلال حقبة العصور الوسطى - أغلبية الطبقة المثقفة. لذلك حافظت الكنيسة على مكانتها المتميزة، وتسابقت طبقات المجتمع لكسب ودها، والدخول معها في تحالفات. وباختلاف الأنظمة السياسية دخلت المؤسسة الدينية في تحالفات مع مختلف الطبقات الاجتماعية، انحازت في بعض المجتمعات للطبقات الفقيرة، لكنها انحازت في مجتمعات أخرى إلى جانب السلطة، وما زال هذا هو الحال في أكثر من مجتمع معاصر.

الصفحات