أنت هنا

قراءة كتاب تفريغ الكائن

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
تفريغ الكائن

تفريغ الكائن

كتاب " تفريغ الكائن " ، تأليف خليل النعيمي ، والذي صدر عن دار المؤسسة العربية للدراسات والنشر .
ومما جاء في مقدمة الكتاب :

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 2

ويروح الصوت· ويعود الصوت:

- منذ سنين وأنا أريدك أن تحل· أن تحل عني وعن حالك· ولكنك لا تعرف حتى كيف تحل·

مطر مفاجئ بدأ يجيء· مطر لم يعد خافيًا· نقط الماء تسقط عجلى حتى القاع· تخر على سطح الماء الدافئ· وأتتبع سقوطها الهمجيّ الأعمى· أرى ولا أرى شيئًا· الأشجار السفلى كانت تهز أعناقها الغبية مبتهجة بالسقوط عليها· رطوبة دافئة· جو خريفي غاسل: الطبيعة تنظف نفسها! كنت أدير لها ظهري شبه العاري· خلفي المسافة المحدودة تمتلئ بأركانها وهوامشها· المطر يزداد حدة وبهاء· الخضرة النضرة تنبثق من أعماق الأشياء المبلولة· أحدق بالمطر وأتابع إصابته الغاسلة· وسخ الرأس، هو الآخر، يتراكم مثل وسخ الكيان· فتصور كائنًا لم ينظف نفسه منذ أكثر من عشرين عامًا· كانت لا تزال تنتظر الإجابة· وكنت أحكي· ولم تكن تسمع·

أردت أن أقول لها: أنا لا أعرف شيئًا· ولكنني سكت·

ولوج الأشياء المبهمة بعضها ببعض، أعطى لمقولتي التي كانت، توا، شبه أكيدة، مظهرًا من مظاهر الاكتئاب البليد· وبتأثير المطر الذي غدا، فجأة، عنيفًا، لم أعد أريد أن أؤكد شيئًا· كان الغضب بمتناول يدي· وكنت ألعب لعبة التمايز والانسلاخ· كان كمٌّ من التراكمات الغيبة يفور في داخلي·

وكنت أقرر: أنني لن أكون أنا، بعد الآن لكن ذلك لم يكن إلا حلمًا· ولم تكن أهميته نابعة إلا من كونه كذلك· فمنذ أن اكتشفت، مؤخرًا، أن الحياة لم تكن ما أعيشه، فحسب، بل ما أفكر فيه، أيضًا، زال عن عيني غشاء الوهم المستبد· الوهم الذي دفعني، يومًا بعد يوم، إلى ممارسة الانسلاب: انسلاب الجسد والروح· بوهم مخيف، مثل هذا، كنت أعلل نفسي؟ كنت أتصور أنني أبحث عن المتعة والاختلاف· وكان قانون اللعبة الهمجية يتولى دمجي القسري في حظيرة المنبوذين·

أردت أن أقول لها شيئًا من هذا· لكنها هَبَّتْ:

- لا تنظرني·

وأتعجب·

النهايات المفتعلة تافهة وكريهة· أول الخلاص هو الخلاص من الذات· من هذه المعتوهة التي تنفث السم في وجهي؟

ويروح الصوت· ويعود الصوت· وأظل صامتًا أتكلم·

الأشياء بيض· لا لون لها ولا إحساس· غمام قاتم يركب المكان· أتطلع، من جديد، إلى الوجه المكور· الوجه المدور· وجه مليء بانفعالات سود مُجَنَّحة· لماذا يحمل هذا الوجه كل هذا الحقد؟

وأتهيأ للانقضاض: وجهًا لوجه كنا نتواقف· وكالملسوعة انفجرت: تفو·

الغمام المعلق في السماء يتكاثف: سماء باريس اللعينة· عبر الغمام النائم أرى، في البعيد، عواصف الشام واضطراباته· السماء الزرقاء، الزرقاء البنية تغمز لي في الأفق القصي· والليل إذا عسعس· والصبح إذا تنفس· والقهر وسنين عشر· وهي متربصة في الخلف· تكاد تنط علي· ترميني وتدميني· حركة هوجاء تجيء من الوراء تلقي بي من الطابق السابع والعشرين إلى الطين· وأنعجن· أغدو ملمسًا بلا قوام· أنخلط بمكنونات الأرض وببُثورها· أفقد ميزة التحمل والاشتهاء· ومن جديد يجيء الصوت:

- اسمع، وصلنا آخر الخط· عليك أن تهبط الآن· لا تنظر السماء بحنانك الكاذب· أنت تعرف أن سماء باريس لا تُرى· هيامك الشبق ولوعتك المستديمة، خلهما لك· أنا امرأة طليق· الحب الذي قيدتني به اهترأ ومات· ومن العبث أن تحاول بعث الموتى من القبور·

- الحب؟ قلت مستغربًا· ودون أن تهتم بما صدر عني، تابعت ارتجالها المحدد (دون أن تنظر إلي):

- لماذا لا تريد أن تدرك أن مركب الحياة يمر بتحولات شتى؟

تحولات ترهق الجسد والروح· لماذا؟

من الأرض كانت تتطلع إلى الأرض· ومنها إلي· ومني إليها· وكنت أتطلع في وجه العتمة المخيف· كانت الحرب تأخذ أبعادها، وكنت أولّي الأدبار·

الصفحات