أنت هنا

قراءة كتاب تفريغ الكائن

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
تفريغ الكائن

تفريغ الكائن

كتاب " تفريغ الكائن " ، تأليف خليل النعيمي ، والذي صدر عن دار المؤسسة العربية للدراسات والنشر .
ومما جاء في مقدمة الكتاب :

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 6

الليل في الخارج الباريسي يستمر· الناس لا ينقطعون عن التمزق· تبادل الأمكنة لا يتوقف· غلالة الظلمة الباريسية تحيط الكون بغلاف أصفر بلا رائحة· غلاف من أنوار السفن المتسابقة، ليلاً، على السين

وهممتُ أن أقول شيئًا (ماذا كان بإمكاني أن أقول؟)

ومن جديد، جاء الصوت الشاكي:

- تشّبثك الغريب، بذلك العالم، وبي، يدعو للحيرة· كنتُ أحسب أنكَ بلا يقين· كنتَ تتسلّق جبالي، وتنحدر على وهادي، بتبجّح واستهتار· تنظر إليّ· وعبري ترى الآفاق البعيدة· ولم أشأ أن أصير سدآ· ولم تكن تعي ذلك، آنذاك· كنت مأخوذًا ببضاضة الجسد· وكنت مأخوذة بكونكَ مأخوذاً بي· كنت تريدني أن أحكي· وكنتُ أظل صامتة ومبهورة· كنت أعرف أنه لا معنى لأن نحكي لسامع وعيه أقل من وعينا· وكانت الشمس التي تغرب خلف جبال الشام، دائمًا، تكفيني مغبّة القول· كنت تصمت بدورك، وأنت تتابع الطريق· لِمَ لمْ تعد تعرفُ كيف تصمت الآن؟

وأريد أن أحكي· ولا أحكي شيئًا·

كانت فكرة العناد القديمة تجيء من أقاصي النفس· عناد دفع بي إلى التخلي المبكر عن بعض أوهامي بحجة تحسين الذات·

لكن التحسين المستمر رافقه تعقيد شديد· واكتشفتُ بأن العالم مملوء بأشياء أحبها، وأشياء لا أحبها، وكلاهما عصيّ على الامتلاك· ولم تعد المقولة البائسة، الأولى: المرء بركنيه، قلبه وقضيبه، إلا سذاجة لا مبرر لها· سذاجة الجَوْعى والمساكين· وبدأت أقلّب النظر بإمعان· ومنذ أن أدركت أن الكانئات متوازيات، وليس في الغيم مكان لأحد، صرت أريد أن أواجه بؤس الحياة بالمتعة· لكن للمتعة، هي الأخرى، بؤسها الخاص· وأردت أن أحطّم صورتي، لا في العين الموازية لي، بل في عيني أنا· كنت أردد: إدراك محدود في عالم شاسع، كيف يمكن الفهم والاستواء؟

ولكن، بلى· قلتِ· (وأضفتِ مباشرة):

- دائمًا، ثمة مجال لقول كلمة جميلة· (ودون أن تنظريني، تابعتِ):

النفس الظمأى تحب الكلمات، لا البشر، فحسب· وأنت كالقش اليابس تحرق نفسك وتحرق غيرك· قش جفّفته الشمس، وعصفت به الريح· وفيما يعنيني، لم تكن الصدفة صدفة: كنت أبحث عن أحد يبحث، هو الآخر، عن أحد، ولقيتك· وحدث ما حدث· الآن علينا أن نتخلص من الجثة علينا أن نغسل أنفسنا منها· لماذا لا تريد أن تفهم هذا؟

كنتُ لا أزال صامتًا أحدق في الليل الباريسي الفاتر· قبل لحظات كان الماء الآسن، في أسفل الأرض، يثير استغرابي· الآن صرت أُقلب الفكر باحثًا عن دريئة أتقي بها الضربات المتتالية بإحكام· كنت لا أزال أردد (وهل ثمة شيء آخر بإمكاني أن أفعله؟): بعد أن تعلّمنا الكلام، علّنا نتعلم الصمت

وفجأة، أسمع الضجة الخافتة خلفي· وفورًا، أقذف نفسي من النافذة· أقع رأسًا في الحضيض· أنتثر كما ينتثر الحَبّ المسفوح في الريح· ويتجمع الخلق حولي· وجوه أعرفها وأرعاها· ووجوه لم أرها من قبل· من بين البشر المتراكم أرى إلى الوجه المكوّر· الوجه المليء بالمغص والاحتقان· (وأغمض عينيّ) كنت في طيراني الهابط إلى القاع أحضن اللجة والريح· أنتقي لعبتي الأبدية· فمنذ أن اكتشفت أنّ إرضاء الآخرين غير ممكن، أدركت أن إرضاء الذات يقع، هو الآخر، في دائرة عدم الإمكان· وقررت في أعماقي: هذا المساء، عليّ أن أفجّر نفسي لكن سقوطي المفاجئ من الطابق السابع والعشرين، لم يغير من الواقع شيئًا· لا، لم يكن باستطاعتي إلا أن أكون مخلصًا لي· وتلك كانت جريمة لا تغتفر· وفيما بعد أدركت اللغز الأساسيَّ (والواضح بشدة): كان عليّ أن أكون سعيدًا، باعتبار أن الحياة لا معنى لها (أدركت ذلك، قبل لحظات فقط) وما معنى أن أدرك ذلك متأخرًا؟ معناه أنني لن أعيش إدراكي· لماذا؟ لأنني لم أكن أرعى في السهل وحدي، قالت· وأفتح عينيّ· أتملاّها· أرى إلى السحنة الغائمة· ومن العين المغروسة في قفا الرأس أرى الفوهة المفتوحة مثل فوهة الفجر الملوّث بالدم· وأرسل بصري بعيدًا، أرسله إلى الهوى والغيم· أبحث عن نقطة المطر النازلة هناك· مطر باريس سمج وغبي· مطر بلا قاع· مطر لا يُبلل الأشياء، ولا يغريها· أدع المطر واقفًا، وأهبط· من علٍ، لا يخفى شيء: الطرقات سود· الأشجار مثل الدببة الواقفة على أطرافها· الناس ذباب· ذباب يمشي مشيًا أصمّ· لا حِسّ له ولا آثار· وفجأة، يتلوّى الجسد الذي لم يعد يملك إلاّ حركته: الحَركة الوحيدة التي صارت كونه ومعناه· لكنها، هذه المرة، كانت حركة فارغة· فارغة تمامًا· كيف يفرغ الجسد من توتره؟ كيف يصير مبتذلاً وبلا فضاء؟ جسد كنت أقاطعه كالريح، وصرت أجانبه وأوازيه· جسد كان متعة وصار عبئًا· ومن لعنة الجسد، ينقذني الدخان: دخان خفيف يترك منشأه السفلي ليرقى عاليًا في الفضاء· دخان حطب البُطم القديم كان يظل لاصقًا بالأرض· كان الشتاء قاسيًا ولذيذًا (شتاء الجزيرة المطير)· كانت الأرض الشبقة تمتص كل شيء·

لا شيء يبتعد عن منشئه ومنحاه· دخان باريس، هذا المساء، ليس من ذلك الدخان· ولكن هل للمقارنة معنى؟ ألا يكون مضحكًا، مثلاً، أن تقارن الأفعى بالحصان؟

كدتُ أتساءل، بصوت عالٍ: إذا كانت مقارنة عناصر الطبيعة، بعضها ببعض، أمرًا مضحكًا، أوليست مقارنة الطبائع أكثر إضحاكًا؟ وأتابعُ خروجي نحو القاع· ويلحقني الصوت المرتاع: لا تخرج - لا تخرج بهذا الشكل ولا بهذا اللبس سيعرفون أنك مجنون· ومنذ أن يروك سيقذفونك بالحجارة· سيقذفونك حتى تسيل الدماء· وأنا وحدي لا أستطيع أن أفعل شيئًا· بلى، بنيَّ· أنت وحدك تستطيع أن تفعل كل شيء: تستطيع أن تفعل ما بوسعك فعله

وأرحلُ، مع الدخان الهائم، بعيدًا· أريد أن ألامس الرَفيف· أن أشم الريح· ألا أسمع، بعد الآن، تنفسها العكر الذي كان يتواتر قربي· كنت بحاجة لأن أكون وحيدًا· ولم تكن الوحدة المنشودة إلا الوجه الآخر للهزيمة· اِلْتَفتُّ إليها، هادئًا: كبَّة الغزل الملفوفة· تكاد تَنُطّ· تسلع الوجه والعين· تريدني أن أذهب بعيداً؟ إلى أين تريدني أن أذهب؟

وهذه، هي الأشجار في مكانها واقفة· والبشر لا زال يمر· والنهر لا زال متشبثًا بالأرض· والجدار هو الجدار· وأنا كما أنا، أقف، كما أقف كل مساء· أرقُبُ النجم الذي لم يطلع بعد· أتملى، في صفحة الماء، ماء السين الآسن، ذرات النور المتناثر في الفضاء· ألاحق حوافر الخيل التي كانت تدك وجه الطين· تعبر الجبل وماردين أستسيغََ حركات الأصابع اللطيفة وهي تلف التبغ بورق الشجر العطن، ومصوصات الشفاه اليابسة وهي تقلب البذور بين أسنانها· كنتُ في الجب، بعيدًا عنها· وأخذت تسحب الدلو· ووجدتني أصعد إليها مع الحبل المتقاصر· كنت لا أسمع إلا أنفاسها اللاهثة فوقي، وصرير المحّالة: محالة الخشب العتيقة· دِلاؤها كانت تأتي نصف فارغة، (لكن ملآنة)· من طينها الرحيق كنا نشرب· مَنْ يسقيني؟ عطشان·

اشرب سمًا· قالت·

لا، ليس منطقيًا، أبداً، ألا يحس الإنسان بأن حياته عبث إلا عندما يداهمه الخوف· مع شربة السم المريعة، لم أكن أفكر إلا في شيء واحد: من سيستخدم عيوني لرؤية العالم بعدي؟

- عيونك؟ عينان سيئتان جعلتهما عيونًا؟ قالت·

الليل والوحدة وخواء الذات، ذلك كل ما بقي لك أضافت· استدرت نصف استدارة· صار و جهي لصق الجدار· تمامًا، لصق الجدار الوسخ اللئيم· وجهها حلّ في الفضاء المقابل· ملأ المساحة كلها، إلا قليلاً· أخيرًا، صرت أحيط بحركتها المنهكة المتخاذلة· حركة الخاسر الذي لم يعد بإمكانه أن يربح، بعد الآن، شيئًا· ولأول مرة، أحسستُ أن كل شيء غدا ممكن الصيران·

الصفحات