أنت هنا

قراءة كتاب تفريغ الكائن

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
تفريغ الكائن

تفريغ الكائن

كتاب " تفريغ الكائن " ، تأليف خليل النعيمي ، والذي صدر عن دار المؤسسة العربية للدراسات والنشر .
ومما جاء في مقدمة الكتاب :

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 7

4

تحضرني أشياء· وتخسرني أشياء· على الجدار الذي ألتصق به يفور الكون، كله، ويدور· عليه قرأت آلاف الكتب - ورأيت أكوام الأحشاء· خطوطها العدّوة ترتسم في كل نحو منه· أخترقُ الجدار· أعبر اللجّة والشطّ· أجيء المنتظرين· أختلط بهم· وجوه مرسومة بحشمة وبلا خيال: وجوه مخذولة· أسأل القريب والبعيد: ماذا يجري؟ (وأنا أردد في سري) يا ويل هذه الجبال تمشي بلا نعال· يا ويل هذه الجماجم تحكي بلا معاجم لا أحد يرد· رعب مكبوت يملأ الأجواف· ومن قريب أسمع الهمس: كنت قاعدًا أتغوّط وجاء خبر الانقلاب· تركت النازل والمنزول، وانزويت· كانت الآلات تعبر الطرقات كالبرق· عليها يرتع جنود قُرع· ثيابهم حمر ومَجْلوخة· بأيديهم حراب مسمومة، ومن حولهم يتطاير الذباب· قعدت، من جديد، بعد مرورهم العاصف· قعدت أتغوّط· وجاء خبر الانقلاب· ورأيت التراب يتطاير من جديد· كان الجو قد تبدل هذه المرة· صارت الريح تخشُّ مثل صدر المسلول، مسلول الجزيرة الذي نسيه الموت· وتراكض الناس· كان الغروب على الأبواب· وبدأ الشيخ ينادي من أضاع عنزًا مخضوبة القوائم، في عنقها خيط بلا جرس، فقد لقينا العنز ولم نلق الجرس· تعالوا صمت· لا أحد يأتي للقاء العنز المثبورة· كان الانقلاب على أشده· وكان الناس مبتئسين:

- ··· انقلاب آخر؟

- لا، انقلاب على الانقلاب يا أحمق·

كان الأمر يبدو مثيراًَ للسخرية وللتعكير· تعكير مزاج البشر يشبه، تمامًا، تعكير الجو· صفاؤه، في النهاية، هو المطلوب· ولم يكن أحد يستطيع أن يجيب، بعد الآن، متى سيصفو الجو· الانقلاب، هو الآخر، له وجهان· مثنوّية لا يمكن الخلاص منها· كان الليل يتسرب، من بين أصابعي· وملأني الخوف: إذا تنفس الصبح ولم أتنفس، فستكون نهايتي· كنت أحوم، منذ أول المساء، حول الشغف بعالم جديد· عالم أحدد أسسه وأختاره ولم أكن أعرف، بعد، إلى أيّ قاعدة أرتكز·

لم يكن لذلك، كما أدرك الآن، أية قيمة· الأسس والقواعد تبدو الآن شديدة الابتذال· فمنذ الخطوة الأولى، نخلق القاعدة الأولى، في حياتنا الجديدة· لكن خوف السكون من الحركة هو الذي يدمر كل شيء· فليس من الضروري أن نعقلن العالم· وليس من الضروري أن يكون كل شيء مفهومًا· ليست المفهومات إلا أساطير نخلقها نحن· وعلينا، نحن، أن نقوم بتفجيرها· لكن الإنسان الكتيم الذي كنته لم يكن ليشف عن هذا· كنت مأخوذًا، كالجرذ المرعوب، بحماية نفسي· ولم أكن لأسنّ أسناني إلا في مواجهة جرذٍ أضعف مني· كان العالم يبدو لي من مكمني الهزيل قلعة حصينة· وكنت أعتقد أن الحب هو الطريق السلطاني الذي سيقودني إلى حيث أريد· إلا أن الحب، الذي لم يكن ضرورة أوليّة في الحياة، لم يكن شيئًا أساسيًا في حياتي· وبدأت الأمور تتعقّد· وبدلاً من أن أصير شفافًا، غدوت كتيمًا، أكثر فأكثر· وفي السلوك الكتيم تهترئ الحياة: المعلوم فيها يغدو مجهولاً· والرحب ضيقًا· وخشية الرغبة تسيطر على إغراء المتعة· وفي هذا السلوك حجب كثيرة ولا مبالاة· إنه سلوك كائن لم يتوصل، بعد، إلى إنجاز منظور نقدي لذاته· كائن لا يزلا يطمع في تبرير الواقع والتستر عليه· السلوك الكتيم هو هذا، ولكن ما هو السلوك المشرق؟ واختلطت الأمور عليّ· ثمة أشياء كنت أريد تحقيقها، وأشياء أخرى، كثيرة، جاءت بها عملية تحقيق هذه الأشياء· وشيئًا فشيئًا، اقتربت الشام من باريس· التصقت إحداهما بالأخرى· ولم أعد أفرق بينهما: وضع كوني لا تمايز فيه، ولا فروق· الفرق الأساسي الذي تبقى، هو فرق الحنين· لكن الحنين وحده لا يكفي لبناء حياة بلا أوهام· أوليس الحنين نفسه، وهمًا لم يعد بالإمكان التحقق منه؟ ما ساءني، هو تطابق الشام وباريس· قبلاً كنت أجد ملجأ أحتمي به: الشام· كنت عندما أزعل من هنا أنّط إلى هناك وكانت المقارنة المستمرة، هي الداء الذي استعصى عليّ الشفاء منه·

- أخيرًا تعترف؟ ألف مرة قلت لك ذلك ولم تسمع· وأنت تقول الآن هذا، لا بد أنك تطمح إلى الإحاطة بشيء آخر· آه لو كنت أعرف نفسي كما أعرفك أنت· كانت تردد بهدوء·

- معرفتي أسهل الأمور· فأنا كائن متناقض ومفزوع· علاقتي بالعالم تحددها الطفرة· عواطفي متساوية الشدة، متوازية الاتجاهات· علموني أن الغصن الذي ينحني أمام الريح لن ينكسر وأن الربح ليس هو ربح الإدراك، وإنما ربح العِراك· وتعلمت أشياء أخرى كثيرة ولدتها قواعد الرهبة والخنوع· ولم أكن أدرك، بعد، أن تسليم الذات الحية لتعاليم ميتة، لن يقود إلا إلى الخراب· كنتُ لا أزال أعتقد أن أنظمة المؤسسة لا تخطىء· وهي إن أخطأت فلغرض مدروس· فالنظام كَوْن قائم بذاته· ولستُ، في النهاية، إلا بعض تجلياته· أتدركين الآن في أيّ بحر كنت أسبح عندما عرفتكِ؟

- لا· كل ما أعرف هو أنك أحمق· أحمق عنيد· منذ البداية وأنت تتصورني تصورًا سلبيًا· تصور الذكر اللئيم لامرأة عديمة الفعالية· وتعتقد، لسوء النية المواكب لتصورك هذا، أن التطور مقصور على الرجال دون النساء· صحيح أن ثمة أنظمة اجتماعية تناصر هذا الإحساس الذكوري بالتقوقع (كدت أقول بالتفوّق) إلا أنها أنظمة وحسب·

وأنت، نفسكَ، الآن، كنت تتململ من سيطرة هذه الأنظمة اللعينة ومن سلطانها، عليكَ· لكنك، كما صرت أدرك الآن، تعتبر أن تمردك ضدها تمرد مبجّل، وأن تمردي ضدها تمرد ضدك أنت· وهو ما يثبت تماهيك معها· ولكن اسمع: إذا كنا تركنا الشام معًا، فلن نرجع إليها معًا· وإذا ما رجعنا، فلن نكون مَنْ غادراها· لم أكن أسمع ما تقول·

كان الوقت ليلاً، وأنزلوني من القطار· قطار أسود طويل· يوصل (مدريد) (بباريس)· كنت أُحوم في ساحات مدريد منذ شهر· في المقهى المقابل لمتحف برادو كنت أجلس·

الصفحات