أنت هنا

قراءة كتاب تفريغ الكائن

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
تفريغ الكائن

تفريغ الكائن

كتاب " تفريغ الكائن " ، تأليف خليل النعيمي ، والذي صدر عن دار المؤسسة العربية للدراسات والنشر .
ومما جاء في مقدمة الكتاب :

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 9

5

لحظة·

لحظة مواجهة المحيط الذي لم أكن أتصور أنني سأواجهه يومًا ما·

اللحظة التي أجبرتُ فيها على الوقوف وحيدًا، ذلك الليل، هي التي فجرت مشاعر الاحتقار العميق عندي· احتقار الشرق، واحتقار الغرب· ولم أعد أردد، ببلاهة (كما منذ قليل): عالمان صرت أهذي: عالم واحد· عالم واحد· وبرغم حلكة المحيط الشاملة· بدا الأمر واضحًا: أساليب القمع، وحدها، هي التي تختلف·

من تلك الأفكار المخيفة انتزعتني أمواج المحيط التي هجمت، فجأة، عليّ· وبدأت أحكي لكِ، فوق تلّة سان سيباستيان الصغيرة الموحِشة·

كنتُ في الجبهة، بين نوى والصنمين وكنت أعتقد أن الشمس هي التي تدور حول الأرض· وأن أرضي هي مركز الكون· كنت أغادر الشام صباح كل خميس (أو قبله بيوم) مرة كل أسبوعين· قبل طلوع الشمس، كنت أركض نحو الكراجِ· كراج حي (الميدان) العتيق: يا رب، السيارة المحصورة نفسها· والسائق الصموت، نفسه، والمرأة الحصناء الصابرة، نفسها· والركاب، هم الركاب· ويومًا، بعد يوم، كما صرت تعرفين الآن، تغيرت الرؤية والمشروع· كنت أحيا تماسًا: حدودي الجسدية هي حدود عالمي· ومداها مداي· محيط الكرة الأرضية، حتى حسابيًا، كان يبدو لي أمرًا شديد التجريد· كنت أحيا كالمُنَّوم: من قبو القصاع إلى كراج الميدان ومن ثمّ إلى نوى فالصنمين، وبالعكس· لكأن أحدًا فرغني من اللب· ذلك الليل، على التلة النائية الغربية، كدت ألتقي بخصائصي الشخصية (التي احترفتها فيما بعد)· في وحدتي الخائفة، تلك، لم أكن أدرك آنذاك أنك جزء من ذلك العالم الرهيب الذي قذفتُ، غير نادم، به (وكان علي أن أقذف بك وإياه)· لا، لم أكن قد توصلت، بعد، إلى القاعدة الأساسية: لا تبرر، ولا تكرر كنت في طور قبليّ· وكان ذلك قبل أن أقدم على ما سيسميه أغبياء الشام: هربا· وكأن الخروج من رحم الأم جريمة، لا ولادة·

كنت أخبىء في صدري كثيرًا من الأمور التي ربما، لم تكن ذات معنى، إلا أنها، بالنسبة لي، كانت محاور أساسية من محاور أنظمة الكون· وكانت الأمور، تلك، بحاجة إلى فضاء تتفتح فيه· كان وعي الرعاع الذي تشبعت به لم يتحول، بعد، إلى وعي نقدي (وربما لن يتحول أبدا· وهو ما صرت أدركه الآن)·

كان علي أن أتخلص من كل شيء، لأبدأ شيئًا ما·

إشكالية الوجود اللعينة: هل على الإنسان أن يلغي تاريخه الشخصي، كله، إذا ما أراد أن يعيش حياة جديدة؟ وما ستكون هذه الحياة التي ستكون بلا حياة؟

لا، ذلك لم يكن ممكناً، لا الآن، ولا آنذاك·

- وهو مع ذلك هرب، برغم تبريرك العجيب، قُلْتِ·

- بلى كان ذلك هربًا، حقًا، هربًا من عالم لم تعد أكاذيبه تطابق حقائقي، ولا أوهامه أحلامي· إلا أنه في الوقت نفسه، خروج للبحث عن أحسن ما عندي· للبحث عن حياة مجهولة (محتملة)، لأن الحياة التي كنت أدوسها بقدميّ لم تكن تستحق حتى هذا· كنت لا أزال أعتقد: أنني بمجرد تغيير المكان سأغير الكيان· وكانت أنشودتي الليلية على الجبهة: لا يجدد الوجود إلا عبور الحدود تجسّد ذلك الاعتقاد (وكنت أضيف أمامك بزهو: حدود الجسد وحدود الفكر، ألا تذكرين؟)

كنت أتصور أن مشروعي الشخصي مشروع كوني·

مشروع سيسانده الآخر، مهما كان· ولم أكن أعرف، آنذاك، أن الكون مليء بالمشاريع الصغيرة والكبيرة، وأن العالم مُقَسَّم ومحجوز· وأن علي أن أبدأ ببناء نفسي قبل أن أتطاول على مشاريع الآخرين· لكن الحب الذي كان يملأ أحشائي لم يكن ليدع لي متسعًا من الوقت لأفكر· حب مفروض بقوة العادة والتاريخ·

كنت ما إن أرى الآخر حتى أمتزج به· لم أكن أملك، بعد، حواجز نفسية واضحة، تحميني· كانت نظرتي إلى التاريخ العصابي الذي لُقِّنْتُه نظرة إجلال أحمق وتنزيه· لم أكن أعرف، يومها، أن كل حركة هفوة، وكل هفوة قاتلة· كنت مصابًا بداء الاحتشاء· احتشاء سببه الامتلاء القسري بالغّث والرديء· بذلك، كله، كنت تختلطين·

الصفحات