أنت هنا

قراءة كتاب أحاديث الثلاثاء - كتابات لمثقفين عراقيين -الجزءالثاني

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
أحاديث الثلاثاء - كتابات لمثقفين عراقيين -الجزءالثاني

أحاديث الثلاثاء - كتابات لمثقفين عراقيين -الجزءالثاني

كتاب " أحاديث الثلاثاء - كتابات لمثقفين عراقيين - الجزءالثاني " ، تأليف عطا عبد الوهاب ، والذي صدر عن دار المؤسسة العربية للدراسات والنشر .

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 10

في (الدار) انهمرت الثقافة (الأدبية في البدء، والعامة لاحقاً) من روافد متعددة:

1- اختصاص (اللغة الانكليزية وآدابها) الذي فتح لي أبواب الجنة الأدبية الانكليزية (والأمريكية) بلغتها الأصلية.

2- أن هذا الفتح جاء على يد ناطقين أصليين للغة الانكليزية لم يبخلوا على طلبتها في التمرين اليومي لممارسة هذه اللغة حديثاً وكتابةً ولا في تفتيح عقولنا (أو في الأقل عقول الراغبين) على ثقافات وأفكار وممارسات كانت بالنسبة إلينا أرضاً بكراً وأحياناً أرضاً حراماً.

3- الجو الثقافي التقدمي اللبرالي (اليساري، كما كان ينعت يومذاك) في صفوف غالبية طلبة (الدار) وبعض من أساتذتها· فمن الشعراء الذين عاصرتهم لميعة عباس عمارة، عبدالرزاق عبدالواحد، سعدي يوسف، كاظم نعمة التميمي، محمود عبدالوهاب، وعشرات غيرهم· ومع أن بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبدالوهاب البياتي كانوا قد تخرجوا قبل التحاقي بالكلية، إلا أن عبق أشعارهم كان لا يزال يملؤها·

في سنتي الأولى، بل في الأيام الأولى منها، حدث ما ذكرني بمدرس مادة الدين في ثانوية الأعظمية· كانت ثم مادة مفروضة على طلبة جميع الأقسام (الأدبية والعلمية) هي مادة (التأريخ الإسلامي)· وكانت توقعاتنا منه سلبية على أساس أننا درسنا التأريخ الإسلامي بكل تفاصيله على امتداد سنوات التعليم الابتدائي والمتوسط والإعدادي· أما كان ذلك كافياً؟ بيد أن المفاجأة تمثلت في حقيقة أن أستاذ المادة (الدكتور محمد الهاشمي) الذي أطل علينا في أولى المحاضرات كان يحمل في داخله (السلبيات) عينها حين استهلها بقوله: اعلم أنكم غير مرتاحين لفرض هذه المادة عليكم· لكنني لن أعيد سرد التأريخ الذي تعرفون فتأخذكم سنة من النوم أثناء محاضراتي! لا· ستكون طريقتي كالآتي: سوف أطرح عليكم نقاطاً تأريخية مثيرة للجدل، فيختار كل ثلاثة أو أربعة منكم نقطة، يراجعون المصادر بشأنها، ثم يخرجون باستنتاجات على هيئة تقرير يتلى أمام طلبة الصف وتجري مناقشته

وأتذكر من حزمة المسائل الخلافية التي طرحها علينا ما يلي:

1- هل كانت للفتوحات الإسلامية (في مجرى التطبيق العملي) أغراض اقتصادية نفعية فضلاً عن أغراضها الدينية المعلنة؟

2- هل المسلمون الفاتحون هم الذين أحرقوا مكتبة الإسكندرية؟ إذا كان الجواب بالإيجاب فما هي مسوغات حرقها؟ بداوة الغزاة وأميتهم، أم تطيرهم من الفكر غير الإسلامي؟

3- الوحي: هل أن الآيات القرآنية أنزلت على محمد بالصورة التي توارثناها؟ أم (كما يرى بعض المستشرقين) أن الوحي لم يكن سوى نتاج مجموعة عوامل أخرى، منها إن محمداً كان بطبيعته ميالاً إلى العزلة في الصحراء، وإن الثقافة الوحيدة المعروفة في مجتمعه يومذاك كانت ثقافة قصص التوراة والإنجيل (التي حفل بها القرآن في ما بعد) حيث كان لليهود وجود مكثف خصوصاً في الطائف ويثرب (علاوة على تأثره بالثقافة اليهودية/ المسيحية المنتشرة في بلاد الشام حينما كان يحل فيها لأغراض تجارية)، فكانت نتيجة هذين العاملين أن محمداً، مع هبوب الريح وانبعاث أصوات من رمل الصحراء المستثار، كان (يتراءى) له أنه كان يسمع (آيات)، فينطقها، ثم يمليها على (كتبة الوحي)؟

أذكر شيئاً آخر، كان المستر زبدي (رئيس قسم اللغة الانكيلزية يومذاك) يدرّسنا مادة (تأريخ الأدب الانكليزي) في السنة الأولى· وحينما تطرق حديثه لتعريف سمات جورج برنادر شو قال إنه كان مؤمناً بالاشتراكية الفابية (Fabian Socialis)· لكن المستر زبدي أقدم على إتيان حركة مسرحية حينما ذكر كلمةالاشتراكية (وكان ذلك في العام 1949-1950)، إذ توجه إلى باب الصف، ففتحه ثم مدّ رأسه خارجاً ليتأكد من خلو الممر من (المتنصّتين)، ثم أغلقه· إذن، الاشتراكية من المحذورات إن لم تكن من المحرمات· لماذا؟! الجواب يستدعي فهم الاشتراكية ومبررات عدّها من (التابوات) يومذاك·

كان مرسم الكلية من ينابيع الثقافة، خصوصاً إذا علمتم أن مسؤول المرسم كان جواد سليم، ومنه (ومن الرسامين الآخرين) نهلنا الشيء الكثير عن مدارس الرسم (الأكاديمية، الكلاسيكية، الانطباعية، السريالية، التجريدية، التكعيبية، الواقعية··· الخ)·

كما حظينا بالتعلم على أيدي قامات أكاديمية - ثقافية كبيرة، منهم جبرا إبراهيم جبرا، ناصر الحاني، صفاء خلوصي، نوري جعفر، عبدالعزيز البسام، عبدالكريم الدجيلي·

في قسم اللغة الانكليزية (وهو القسم الأنشط في الكلية) شكلنا فريقاً تحت اسم (جماعة الموسيقى Music Group)· اتفقنا مع (المجلس الثقافي البريطاني British) Council على تنفيذ برنامج أسبوعي يأتي بموجبه أحد موظفيه (المستر إيلاند) كل عصر ثلاثاء مصطحباً جهاز غرامفون كهربائياً ليسمعنا قطعة موسيقية كلاسيكية (سمفونية، كونتشيرتو، افتتاحية، أوبرا··· الخ)· بعد أن يقدم نبذة عن القطعة ومؤلفها· وكان عميد الكلية الدكتور عبدالحميد كاظم، المثقف المتنور والحداثي، قد وافق على تخصيص غرفة استراحة الطالبات لهذه الفعالية التي لم تجتذب طلبة القسم فقط بل صار يحضرها طلبة من أقسام أخرى ومن خلفيات ثقافية أكثر تواضعاً·

وهنا يجدر ألا أغبن أهمية الأنشطة الثقافية التي أبدع فيها طلبة الأقسام الأخرى من خلال (اللجنة الثقافية) التي كان يرأسها الدكتور شريف عسيران، مثل المسابقات الشعرية والمسرحيات (كانت الممثلة زينب - واسمها فخرية عبدالكريم - طالبة، وعبدالواحد طه موظفاً في الكلية) والمحاضرات (باهر فائق وفرقة المقام العراقي، مثلاً)، واغتنام كل الفرص لبث الثقافة الجديدة (كتحويل مناسبة المولد النبوي إلى احتفالية ضمت لأول مرة - علاوة على محاضرة مختصرة للدكتور مصطفى جواد - أغاني ودبكات وزغاريد··· الخ)·

وأخيراً، لا بد من التنويه إلى الأثر الكبير الذي تركه في توجهاتنا الثقافية قرب الكلية الجغرافي من (معهد الفنون الجميلة) - وبوجه خاص - من (المعهد الثقافي البريطاني British Institute) بمكتبته العامرة وفعالياته المسرحية والموسيقية والفنون التشكيلية·

بعد تخرجي في العام 1953 (بمرتبة الشرف) عينت مدرساً في متوسطة المسيب (70كم جنوبي بغداد آنذاك)· وفي المسيب التقيت مدرساً للغة العربية صار له شأن كبير في عالم الثقافة (والشعر خاصة) لا على مستوى العراق فحسب، بل في أرجاء العالم العربي وما وراء حدوده: مظفر النواب، حيث تشاركنا السكنى في دار واحدة وحب الطبيعة والثقافة بكل تنويعاتها· وفي تلك الفترة كان اهتمام مظفر بالرسم (خصوصاً في ريف المسيب) أكثر من اهتمامه بنظم الشعر، علاوة على ولعه بالغناء والموسيقى عموماً· ومن هنا نمت العلاقة الروحية بيننا إلى أن فصل من الوظيفة لرفضه التوقيع على ما سميت (البراءة من الشيوعية)· أما نظمه الشعر بالعامية فلم أسمع منه على امتداد عام كامل من التساكن سوى بيت واحد يخاطب الأثرياء:

صيح لك يبزي قهر، يبزي ظلم

يا اللي بنيتو قصور أحلى من اللقم

وحينما حاججته مداعباً: ألا تتمنى أن يكون لك قصر أحلى من اللقم؟ أجابني: بلى، ولكن ليس على حساب سكنة الصرائف

في أوائل العام 1955 نقلت إلى بغداد، وخلال العامين 1956 و1957 شرعت أنشر عموداً (هو في الحقيقة أطول من عمود ولكن أقصر من مقالة) كل أسبوع في جريدة (البلاد) التي كان يديرها آنذاك ابنا روفائيل بطي (بديع وكمال) تحت عنوان (ينابيع الأحرف الزرقاء) أتناول فيه قضايا، أو خواطر، فكرية وثقافية واجتماعية (لا سياسية)· والظاهر ان تلك الكتابات استرعت اهتمام بعض المثقفين، حتى جاءني ذات يوم (وكنت آنذاك مدرساً في ثانوية الأعظمية) أحد مدرسي اللغة الانكليزية (غانم حمدون) ليقول لي إن ثمة عدداً من المثقفين يودون التعرف عليّ· وكان ما كان، إذ تعرفت على (ثم صادقت) مجموعة تملك ثقافة موسوعية هائلة، منهم: علي الشوك، غانم حمدون، نوري السعدي، جميل لويس، بديع عمر نظمي··· وصرنا نلتقي مرةً كل شهر في دار أحدهم بالتناوب حيث نستمع إلى الموسيقى الكلاسيكية ونناقش قضايا فكرية (في معظمها غير سياسية)· وبفضل تلك اللقاءات تعزز حافزي لمزيد من القراءة والتثقيف·

نعود إلى (ينابيع الأحرف الزرقاء) التي جفت (أو طمرت) في وقت ما من العام 1957، ففي ذلك دلالة سياسية· والخلاصة هي: حدث ذات يوم أن أوشكت سيارة (جيب) عسكرية أن تصطدم بسيارتي صدمة قاتلة لولا انحرافي بها بأعجوبة· وحينما أوقفت سيارتي وتوجهت إلى الجندي سائق (الجيب) لمعاتبته على قيادته الخرقاء، لم ينبس السائق بحرف· غير أن الضابط الجالس إلى جواره فتح فوهة فمه وأطلق عليّ بكل احتقار: إنقلع عدة مرات! طبعاً، لم يكن من الحكمة أن أرد على الضابط الوقح، فعدت إلى سيارتي مثقلاًَ بالإهانة، وتوجهت إلى وزارة الدفاع· سألت حرس البوابة عن الضابط المناوب (الخفر) في آمرية موقع بغداد، فأشاروا إليه جالساً في الحديقة الأمامية الكائنة وراء البوابة، سلمت عليه وعرفته بنفسي· شكوت له ما جرى، فكان متعاطفاً وحاول تهدئتي ونسيان ما حدث· شكرته وخرجت دون أن تهدأ مشاعري، وفي تلك الليلة كتبت خاطرة بعنوان (بلادي في الحلم) عبرت فيها عن تراكمات سلبية كان معظم المتسببين فيها من ذوي البزات الخاكية· في الخاطرة خاطبت هؤلاء (دون تحديد ملامحهم): أرض العراق أرضنا وستبقى كذلك، دجلة والفرات ماؤنا، وهواء العراق هواؤنا·· وإذا كنتم اليوم قادرين على حرماننا، فأنتم غير قادرين على منعنا من أن نحلم ببلادنا على النحو الذي نتوق إليه·

في موعد (ينابيع الأحرف الزرقاء) نشرت (بلادي في الحلم) ضمن الفقرات الأخرى· وفي الأسبوع التالي ذهبت إلى مكتب جريدة (البلاد) لتسليم المادة التالية فإذا بأحد أبناء روفائيل بطي يفاجئني بخبر مفاده أن وزير الداخلية (سامي فتاح) استدعى ولدي بطي إلى مكتبه في الوزارة، (حيث نشر على طاولته صفحة (الأحرف الزرقاء) مسوِّراً (بلادي في الحلم) بخط أحمر ليطلب منهما تزويده بالاسم الحقيقي لأمجد حسين على أساس أن مضمون (بلادي في الحم) مغلف أشبه بالشيخ محشي، على حد تعبيره في حين أن هدفه كان التحريض ضد النظام· وبعد شيء من الدفاع عن مقصدي وكثير من الاعتذار للوزير استجابا لطلب الوزير بمعني من الكتابة في جريدتهما· ومن المعروف يومذاك أن روفائيل بطي وأبناءه، وبالتالي جريدتهم، كانوا موضع رعاية الدكتور فاضل الجمالي، ما يفسر التساهل النسبي الذي أبداه وزير الداخلية إزاء صانع الشيخ محشي!

في أواخر العام 1957 حصلت على بعثة من وزارة المعارف لنيل شهادة الماجستير في اختصاص (اللغويات/ اللسانيات التطبيقية Applied Linguistics) من جامعة فرجينيا (في شارلوتسفيل القريبة من العاصمة واشنطن)· وصلتها في شباط 1958· وبعد انقضاء أول فصل دراسي لي فيها قابلت في واشنطن الدكتور ناصر الحاني (الملحق الثقافي يومذاك والأستاذ السابق في دار المعلمين العالية) راجياً منه نقلي إلى جامعة أرقى· فطرح سؤالاً عن السبب، فأشرت إلى درجاتي العالية في أول فصل دراسي لي في (فرجينيا) ما يجعلها (في نظري آنذاك) لا تشكل تحدياً كافياً لي· نظر إليّ الدكتور ناصر وقال بلهجته العبوس المعهودة: يعني تريد جامعة تكسّر راسك؟ قلت: نعم وفعلاً حصل لي على قبول في جامعة (ستانفورد) في كاليفورنيا· نزل عليّ الخبر نزول الصاعقة المصحوبة بمطر على أرض جدباء: مزيج من الفرح والخشية، كان اسم (ستانفورد) يتلألأ في سماء الجامعات الأمريكية، مكانةً وعمقاً وصعوبةً·

شكلت (ستانفورد) نقطة تحول باتجاه الانطلاق نحو آفاق ثقافية، وبالتالي فكرية، أرحب· صعوبة الدراسة فيها ناشئة عن حرص إدارتها على ديمومة مستواها العالي· من ذلك أن السنة الأكاديمية مقسمة إلى ثلاثة فصول (Quarter System) لا على أساس فصلين (Semester System)، أي أن على الطالب أن يدرس في ظرف ثمانية أشهر ما يزيد بنسبة 50% عما يدرسه طالب في جامعة أخرى ضمن المدة عينها· ليس هذا فحسب· كانت نوعية الأساتذة مذهلة، والنشاطات الثقافية راقية وحاشدة، إضافة إلى قربها من سان فرانسيسكو، عاصمة الثقافة على الشاطئ الغربي للولايات المتحدة حيث سيل المعارض والمسرحيات والحفلات الموسيقية ومحاضرات الشخصيات القادمة من جميع أرجاء المعمورة لا ينقطع· وبالنسبة إليّ كانت تلك جنتي على الأرض، مع أنها -مع الأسف- لم تكن كذلك لبعض العراقيين·

أذكر لكم هذه القصة الطريفة: ذات يوم قرأت في الصحف أن معرضاً يضم كماً كبيراً من لوحات (فان غوخ) جمعت من متاحف العالم سيقام في سان فرانسيسكو، فهاتفت صديقاً عراقياً جامعياً يقيم في سان فرانسيسكو نفسها، وأخبرته باعتزامي القدوم بسيارتي والمرور على شقته ليصحبني إلى المعرض· فكان جوابه: دروح عمي·· آني وفان غوخ كجا مرحبه؟ روح إنت اتفرج ومن تخلّص تعال عندي: أبو عايدة (ناصر الحاني) دز لي بطل عرق وأم عماد دتطبخ باجة للعشاء!)· الشخص نفسه كان قد أمضى ست سنوات في ستانفورد للحصول على الدكتوراه في اختصاص التربية، لكنه أخفق مرتين في اجتياز (الامتحان الشامل) الذي يسبق كتابة الرسالة (الأطروحة)· وعشية المحاولة الثالثة بذلت جهدي لإقناعه بالتحضير الوافي قبل مقابلة لجنة (الشامل الشفهي)· وحينما خرج سألته عن مجريات الامتحان، فكان جوابه: يا معوّد، ذوله شادّين عداوه ويايه·· تصور واحد منهم يسألني: إنت من بلد نفطي، إشرح العلاقة ما بين النفط والتربية أكو هيجي سؤال خبيث؟! إشجاب النفط على التربية؟ أكيد هذا الأستاذ يهودي!؟

وكان تعليقي المشحون غضباً: إبن الأودام··· لولا نفط العراق هل كان بالإمكان ابتعاثك إلى ستانفورد للدراسة؟

الصفحات