أنت هنا

قراءة كتاب الطلياني

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الطلياني

الطلياني

رواية " الطلياني " ، للمؤلف التونسي شكري المبخوت ، والذي صدر عن دار التنوير للنشر والتوزيع - لبنان

تقييمك:
4
Average: 4 (6 votes)
المؤلف:
الصفحة رقم: 1

الزقاق الأخير
1
لمْ يفهم أحد من الحاضرين في المقبرة يومها لمَ تصرّف عبد النّاصر بذاك الشّكل العنيف. ولمْ يجدوا حتى في صدمة موت الحاج محمود سببًا مقنعًا.
كان الإحساس العام أنّ النار تخلّف الرّماد. فأين وقار الحاج محمود وأناقته في جبّته السكرودة التونسيّة وشاشيّـته الإسطنبوليّ أو في بدلته الإفرنجيّة وقبّعته المستديرة، على حدّ سواء، من طيش ابنه بسروال «الدجينز» وسترة «الدّنقري» والشّعر الأشعث واللّحية المعفاة؟ فحتى وسامة الفتى، التي جمعت جمال الأصول الأندلسيّة لأمّه وجدّته ومخايل الوسامة التّركيّة لأبيه وجدّه، تلاشت في تلك الهيئة التي جعلته أقرب ما يكون إلى «هبّاطة» الميناء و«بانديّة» الحيّ الذين لم ينالوا ولو حظًّا يسيرًا من التّعليم.
كانت مقبرة الزلّاج في حالة خشوع، لا تسمع في أرجائها إلّا التّكبير وأصوات القرّاء يرتّلون ما تيسّر من آي القرآن الكريم. وكان موكب الدّفن كبيرًا على قدر ما يكنّه أهل الحيّ للحاج محمود وللعائلة كلّها من تقدير. فالموتى لا يتساوون، والجنازة دليل على رأس مال المتوفّى وعلى ما في رصيد العائلة من المعاني والرموز والمكانة.
حضر يومها، إضافة إلى العائلة الموسّعة، الجيران وأبناء الحيّ والأحياء المجاورة وأناس عاديّون عديدون وأصدقاء ابنيْ المغفور له من الفنّانين والمثقّفين والجامعيّين ورجال الإعلام وحتى رجال السّياسة وبعض الوزراء. وأكثرهم كان من أصدقاء عبد النّاصر وأخيه صلاح الدّين الباحث الجامعيّ المرموق والخبير لدى مؤسّسات ماليّة دوليّة.
أقيمت صلاة الجنازة في الباحة الكبرى للمقبرة. فخيّم الصمت واصطفّ النّاس يؤدّون الواجب. كنت، منذ سمعت النبأ، إلى جانب عبد الناصر الذي لم أفارقه إلّا لساعات قليلة. كان معنا جمع من رفاقنا. وقفنا على الجانب الأيمن من الباحة حذو عرصة ننتظر الفراغ من صلاة الجنازة لنشيّع الحاج إلى مثواه الأخير مع المشيّعين. اقترب منّا توفيق خال عبد النّاصر. سمعته يوشوش له، يدعوه إلى الوقوف مع الواقفين للصلاة: «عيب! التحق بأخيك في الصّفّ الأوّل ماذا يقول عنّا النّاس؟ استرنا على الأقلّ يوم دفن والدك». نهره عبد الناصر ممتعضًا حانقا: «تعرف كما يعرفون أنّني لا أصلّي ولا أصوم».
سار الحشد وراء سيارة البلديّة في اتّجاه طريق سيدي أبى الحسن الشاذلي فتقدّم عبد النّاصر الصّفوف. التفت فلمح الإمام. كان بدينًا يلبس جبّته العكريّ. حدّق متثبّتا فوقعت عيناه على عينيه. طأطأ الإمام رأسه مرتبكًا. ظلّ ينظر إليه وهو يسير في الموكب وراء سيّارة دفن الموتى مثلنا.
 

الصفحات