You are here

قراءة كتاب مطر الله

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
مطر الله

مطر الله

رواية "مطر الله" للروائية العراقية هدية حسين، الصادرة عام 2008 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت، نقرأ منها:

تقييمك:
0
No votes yet
المؤلف:
الصفحة رقم: 1
مطر الله
 
وسوف يقرأ الناس في أرجاء الدنيا مدوّنات تقول: إن (بحر السّواد) الممتد من جنوب تركيا حتى حدود الكويت الشمالية، ومن إيران شرقاً حتى الأردن غرباً، كان قبل مئات السنين أرضاً خصبة يجري فيها نهران عظيمان، وقامت عليها أربع حضارات عظيمة بفضل أقوامها متعدّدي الثقافات والأعراق الذين اخترعوا الكتابة، وسنّوا أول قانون على الأرض عام 1800 ق·م
 
من المؤكد أن أكون في حلم، إذ ليس ثمة ما يثبت عكس ذلك، فهذه البيوت والأزقة كانت قد اندثرت منذ زمن بعيد، وانتقل أهلها إلى مكان آخر، حتى أنني أتذكّر اللوريات والعربانات التي أصطفّت على السدّة وهي تمضي بالناس وأغراضهم إلى المساكن الجديدة، وصادف أن مررت بالمنطقة مرات ومرات بعد ذلك الرحيل الجماعي، ولم يحدث أن قامت من غيابها الأبدي·· لست محموماً ولم تأخذ الشيخوخة مني الكثير لتختلط عليّ الأمور على هذا النحو، أنا الآن في كامل قواي العقلية ولا أشك بواقعية ما أرى، لكن ما أراه يخالف منطق الزمن، لذلك أحيله إلى الأحلام، فبعضها يتفوق على الواقع في وضوحه·· فيا أرض أصدقيني، كيف يمكن أن يعود الزمن إلى الوراء، هو الذي ما توقف يوماً في مكان؟
 
أحسّ بأن صوته يتدحرج كما الحجارة التي تسقط من علو شاهق، ورأى نفسه يهرع وينزل السلالم الحجرية التي تفضي إلى النهر، والهواء المنعش يحرك دشداشته فيبتهج، ويلمح أخاه صابر على الجرف فينادي عليه بغضب:
 
- تعال أيها البغل·
 
وإذ لم يجبه، بل ويختفي ظل أخيه، وتختفي البيوت والناس، وتعود الأرض اليباب، يكوّر قبضته اليمنى، ويضرب جبهته مكرراً: لا بد أن أكون في لجّة حلم طويل يتلاعب بي فأهذي مثل محموم·
 
لكن صوتاً غريباً، هادئاً، وقوراً، لا يدري من أين جاء وطرق أذنيه:
 
- لقد تجاوزت أعتاب الشيخوخة يا سيد مهران، وركلتك الأيام بعيداً، لم يعد قلبك المجبول من صخر الصوان غير عضلة تالفة، وجسدك المفتول سوى كومة قش، وقد يكون ما تراه شيئاً من هلوسات بصرية·· دعني أفسر الأمرعلى النحو التالي: إذا كان الحلم الذي تدّعيه قد أعاد البيوت الملبوخة بالطين، والأكواخ المسقوفة بجذوع النخيل والبواري، والأزقة الترابية المتعرجة، إلى سابق عهدها، أما كان من الأجدر أن يعيد إليك شبابك؟ لقد كنت في ذلك الوقت شاباً متوهجاً ومفعماً بالحياة، إذا كان ثمة التباس دعني أوضح الأمر على نحو آخر، إن ذاكرتك قبل سنوات أفرغت محتوياتها فانزلقت منك الذكريات واختبأت، ولم يبق فيها سوى جذاذات باهتة لا تعرف من أين جاءت، ولماذا هي ملتصقة برأسك دون أن تفصح عن نفسها، إنها مجرد نقاط معتمة من زمن مضى، أما بقية المساحات فهي صفحات بيض كيوم ولدتك أمك، امّحى الكثير مما كنت تعرفه، وهي وإن عادت بقليل من الرؤى فقد عادت منقوصة، وها أنا جئت لأردّ بضاعتك إليك قبل أن تضيع في لجة النسيان، سأحكي لك ما حدث كما حدث، لعلك في واحدة من الحكايات تستعيد ما ضاع منك وتدرك حجم خطاياك·
 
ما تراه الآن يا سيد مهران ليس أكثر من صدى لذكرياتك التي فقدتها منذ زمن بعيد، وها أنت تستعيد بعض تفاصيلها التي كانت غاطسة في قحف جمجمتك، لكنك بحاجة إلى من يزيل الغشاوة التي تغلّف قلبك وعقلك، وهذا ليس بالأمر الهيّن، ولكن حذار من الذاكرة فإنها مراوغة، تحجب ما تحجب، وتدفع إلى الواجهة ما يناسب مزاجها، ومزاجها اليوم مضطرب، لأنها تقوم من رقاد ثقيل، ولكنني سأساعدك، دعني أرتب ما جرى كما هو مدوّن لدي، سنضطر للعودة إلى الوراء برغم أنني لا أحبذ ذلك، لا خيار لك سوى الاستماع إليّ دون مقاطعة، فلطالما سمعتك وما كنتُ بمختار، أحتاج منك إلى قليل من الصبر وأنا أعبر مثلك أكداس السنين رجوعاً إلى ذلك الزمن الذي ما نزال نحن الاثنين نتشبّث به، بيننا الآن وبينه مسافة شاسعة، تراكمت الأيام على الأيام، استطالت فصارت أعواماً، تمطت الأعوام فصار العمر رماداً إذ انطفأت تحته جمرات الصبا والصبابة·

Pages