You are here

قراءة كتاب إذا الأيام أغسقت

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
إذا الأيام أغسقت

إذا الأيام أغسقت

عنوان الرواية هذا هو، بحدّ ذاته، رمز لمكان كان مضيئاً ثم أخذ يدب فيه الظلام. المكان: جامعة في العراق، والظلام ينتشر في بلد الحضارات ويمتد إلى موقع تدريسها.

تقييمك:
0
No votes yet
المؤلف:
الصفحة رقم: 2
ترك والدي النجف بعد ولادة حياة بعام، والتحق بثانوية الناصرية كمدرس للغة العربية، وشعر أن الحياة الجديدة مضنية في جانبها العملي والروحي، تستنزف معظم وقته، وشعر بالغربة والنفور من نظرة المعلمين السطحية(1)
 
سافرنا ذلك الصيف الى لبنان· وقضينا عاماً كاملاً مع والدتي، حيث ولدت ولداً، فتعالت الزغاريد ووزّعت علب الحلوى، وانهالت التهاني بالطفل الجديد على والدي من جميع أعضاء الأسرتين، آل الزين وآل شرارة، كأن والدي هو المسؤول الوحيد عن مجيء هذا المولود، واجتمع أعضاء أسرة شرارة نساء ورجالاً، قاضين سهرتهم في البحث عن إيجاد اسم لائق للمولود الجديد، واستعانوا بالقواميس العربية، وبعد أسبوعين من البحث عن أسم يليق بمنزلة المولود الجديد،اختلفوا في تسميته: أحدهم يريد عدنان وآخر قحطان، وسرت النشوة والفرح عندما وافق الجميع على اقتراح جدي في تسميته إبراهيم، وتخلص والدي ووالدتي من التسمية الشائنة التي لصقت بهما أبو البنات، وأم البنات·
 
ما هو شعور وردود فعل البنات الصغيرات تجاه هذا الاهتمام بالمولود الجديد وبالأخص الصغيرة حياة؟ إن أهمية الذكر وتعظيمه مشكلة اجتماعية، جابهتها المجتمعات وآمنت بها منذ ظهور الزراعة، فنشأ تفضيل الذكر على الأنثى لأنه يؤمن باستمرار اسم العائلة واستيراث الأرض، ولا زالت الأنثى تعاني من وطأة هذا الوضع·
 
ولكن والدي كان يؤمن بالمساواة التامة بين البنين والبنات، ولم يدع مجالاً لسيطرة عقول مؤمنة بمفاهيم قروسطية، من التدخل في توجيه أبنائه وبناته وتربيتهم·
 
قبل عودتنا الى العراق بأسابيع، أصيبت حياة بمرض التيفوئيد، واضطرت والدتي لتركها في لبنان مع جدتي·
 
برزت أمامي عيناها الواسعتان، بنظرات مملوءة بالتوسل بوالدتها، وكأنها تقول: ماما لا تتركيني وتذهبين بدوني· لم تكن تستطيع التعبير بالكلام، فلم تبلغ بعد العامين من العمر، عزلت في غرفة لا يقترب منها أحد إلا والدتي، والآن ستتركها في هذه الغرفة وحدها، ظلت عيناها الواسعتان الغائرتان من شدة المرض، تلاحقنا ونحن نتجه نحو السيارة·
 
مّر عامان ولم يتذكر أحد منا حياة غير والدتي، التي كانت تغرورق عيناها بالدموع عندما تتكلم عنها· وعندما عدنا الى لبنان، لم تتعرف حياة على العائلة، ونسيت حتى والدتها، وعندما حاولت والدتي تقبيلها، أسرعت وتمسكت برداء جدتي التي أصبحت لها الأم والأب والأخت·
 
تغيرت ملامح حياة عما تركناها منذ عامين، ببريق عينيها الواسعتين، وشعرها الطويل الكستنائي اللون، وحمرة الصحة التي كست وجنتيها، وكانت طليقة الكلام باللهجة اللبنانية·
 
عادت معنا بعد أن قضينا الصيف في ربوع لبنان، والتحقت بالروضة بمدينة الحلة· لم تكن تحب الذهاب الى الروضة، فقد رفضت الذهاب اليها مرات عديدة· كانت تعيد نفس الجملة: الأطفال لا يتكلمون اللهجة التي تتكلمها، وتصّر عليهم أن يتكلموا لهجتها·
 
وأظهرت حياة موهبة أدبية منذ نعومة أظفارها، وأحبت الشعر الحديث وحفظته عن ظهر قلب، وكان لوالدي أثر كبير في ذلك· إذ كان يتلو الشعر ويترنم به، وأصبح ذلك جزءاً من حياتنا اليومية، ورسخ في ذاكرتنا ما كان يترنم به من قصائد· وبالاضافة الى هذا كانت أحاديثه الاعتيادية معنا باللغة الفصحى مما أغنى استيعابنا للغة العربية·
 
نشأت حياة وترعرت في هذا الجو الأدبي، وأظهرت موهبة خاصة عندما كانت تقارع والدي بحفظها دواوين شعر كاملة أثناء المساجلة الشعرية التي كانت تشترك بها العائلة·
 
عندما انتقلنا الى بغداد في منتصف الأربعينات، أصبح بيتنا منتدى وملتقى لكثير من الشعراء والأدباء والمفكرين، وكان يجمعهم في تلك اللقاءات حبهم للأدب والشعر، بالرغم من التباين والاختلاف في آرائهم السياسية· واتخذت تلك اللقاءات طابعاً اسبوعياً·
 
كانت حياة تجلس دائما في زاوية من غرفة الضيوف وبين يديها الصغيرتين دفتر تسجّل فيه ما تستمع الىه في تلك اللقاءات الشعرية من قصائد جديدة، ولم نكن ندري أن تلك اللقاءات كانت تمثل بداية نشأة الشعر الحديث· كان الجدل يدور حول تجديد الشعر وجعله حراً بلا قافية· كان الشعراء يقرأون آخر ما نظموه من القصائد، وكانت تلك اللقاءات الأسبوعية هي البذرة الاولى في توجيه حياة أدبياً وسياسياً·
 
كان بدر شاكر السياب ولميعة عباس عمارة من المواظبين أسبوعياً على تلك اللقاءات· وشارك بتلك اللقاءات محمد مهدي الجواهري وحسين مروة ونازك الملائكة وأكرم الوتري وبلند الحيدري، ومحسن الأمين· كانت نازك تزورنا معظم الوقت بصحبة والدها صادق الملائكة وأحيانا مع أخيها نزار·

Pages