You are here

قراءة كتاب إذا الأيام أغسقت

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
إذا الأيام أغسقت

إذا الأيام أغسقت

عنوان الرواية هذا هو، بحدّ ذاته، رمز لمكان كان مضيئاً ثم أخذ يدب فيه الظلام. المكان: جامعة في العراق، والظلام ينتشر في بلد الحضارات ويمتد إلى موقع تدريسها.

تقييمك:
0
No votes yet
المؤلف:
الصفحة رقم: 4
خرجت المظاهرات في شوارع بغداد، تطالب بسقوط الصهيونية، وشملت جميع المدارس في العاصمة، بما فيها المدارس المتوسطة والثانوية، ولكن لم يسمح للمدارس الابتدائية بالمشاركة فيها، وتألمت حياة عندما عدنا من المظاهرة المنظمة من قبل الحكومة نَقصّ عليها ما حدث، وتمنت لو سُمح لمدرستها الابتدائية بالمشاركة أيضا·
 
كان ذلك العام، عام 1948، من الأعوام الصاخبة التي مرّت في تاريخ العراق الحديث، فقد وُقّعت معاهدة بورتسموث، من قبل السلطة، التي كان رئيس وزرائها صالح جبر، واعترضت الأحزاب المعارضة على تلك المعاهدة، واعتبرتها جائرة ومجحفة بحق العراق، وشجبتها·
 
انتقلت المقاومة لتلك المعاهدة الى الشارع· وبدأت المظاهرات التي تخللتها الخطابات الحماسية والقصائد الملتهبة والهتافات الرنانة، وتزايدت المقاومة يوماً بعد يوم، حتى أمرت الشرطة بفتح النار على المتظاهرين، فسقط خلالها عدد من القتلى قرب جسر مود عندما كان المتظاهرون متجهين نحو السفارة البريطانية، والتهب الوضع عندما علم أن من بين القتلى الذين سقطوا مضرجين بدمائهم جعفر الجواهري، شقيق الشاعر المشهور محمد مهدي الجواهري، فنظم في تأبينه قصيدته المشهورة التي ترددت كنشيد شعبي على فم كل عراقي ومن بينهم حياة، ومطلعها:
 
أتعلم أم أنت لا تعلم
 
بأن جراح الضحايا فمُ
 
تراجعت السلطة عندئذ عن إبرام المعاهدة، وسقطت حكومة صالح جبر· وهدأ الشارع ، وتحول الى لافتات يرفعها المشيّعون للضحايا الذين سقطوا برصاص السلطة·
 
وأطل عام 1949، وصادفت الذكرى الأولى للوثبة التي أسقطت معاهدة بورتسموث فأعلنت الأحكام العرفية، وبدأت حملة اعتقالات واسعة في العراق، لم يشهد لها مثيلاً منذ حركة رشيد عالي الكيلاني· فحلت الأحزاب وعطلت الصحف عن الصدور، واعتقل عدد كبير من مفكري وسياسيي العراق، وكان والدي وعمي مرتضى ممن شملهم الاعتقال·
 
كنا نسكن في حي الكرادة الشرقية، في دارنا المطلة على نهر دجلة· عندما داهمت الشرطة دارنا ليلاً، وفتشت جميع الغرف، ونثرت الكتب وأوراق والدي، التي غطت أرض الغرفة، وصودر عدد كبير من كتبه وأوراقه، وشملت المصادرة حتى الصور التي التقطت لنا ولرفيقاتنا في المدرسة أثناء تشييع الذين سقطوا خلال المظاهرات· وانقلب عالمنا المشرق رأسا على عقب· وانطفأت جذوته وأصبح عالماً مثقلاً بالهموم، لا ندري ما يحمل في طياته من مفاجئات·
 
اختفى والدي وعمي مرتضى مع الكتب والأوراق التي صودرت، واعتقلا في معتقل أبو غريب· كان المعتقل يزخر بالمفكرين اليساريين، من أمثال الشاعر بدر شاكر السياب والشاعر محمد مهدي الجواهري، مع رجال الأحزاب المعارضة ورؤسائها، وطلبة الكليات·
 
حزنا على والدي وعمي، وشعرنا بالفراغ الذي أحدثه اعتقالهما· كانت والدتي تبعث لهما يومياً الطعام بـ زنبيل - وهي سلة مصنوعة من خوص النخيل - مغطى بمنديل أبيض، ويعاد الزنبيل بالمنديل الأبيض الذي يغطي ملابس والدي وعمي لغسلها، كانت والدتي تفتشها بحثاً عن قصاصات الورق التي قد تعطينا نزراً ضئيلاً عن حالتهما· وانطبعت حالة والدي وعمي في ذاكرة حياة وأبرزتها في روايتها وميض برق بعيد التي لم تنشر بعد:
 
حدثتني عن فزعها عندما طرق الباب في الساعة الثانية ليلاً، وكان الجميع يغطون في نوم عميق، فاضطرت هي الى النهوض من سريرها وفتحه، متصورة أن أحد الجيران قد وقع له مكروه، وأتى يطلب مساعدتهم· غير أنها فوجئت بشرطيين يقفان أمامها ويسألناها عن أخيها أحمد طالبين منها أن تناديه· ارتبكت ولم تعرف ماذا تفعل، وظلت جامدة في مكانها تتطلع اليهما بذهول حتى طلبا منها ثانية بصوت عالٍ صارم أن تذهب وتستدعيه· أبقت الباب مفتوحا ومشت وكأنها ترى كابوساً في نومها· دخلت غرفة ]أحمد[ وأيقظته بصوت مرتجف وأخبرته بوجود الشرطيين في الخارج· فزّ من فراشه في الحال وبقفزة واحدة أصبح عند خزانة الملابس وأخذ يرتدي ثيابه على عجل··· أيقظت في تلك الأثناء جميع أفراد عائلتها ما عدا أمها التي استيقظت من تلقاء نفسها على أصوات الضوضاء والحركة غير الاعتيادية فيما حولها· تعالى عويل أمه وأخواته وشهقاتهم، وبان الوجوم على وجوه أخوانه· بقيت هند مع أبيها رابطة الجأش، وخرجا معا الى الشارع، ووقفا يراقبان أحمد وهو يسير وسط الشرطيين، اللذين وضعا قيداً حديدياً في يديه، حتى توارى بعيداً مع معتقليه وتحولوا الى أطياف تشق سكينة الليل بوقع أصوات أحذيتهم الثقيلة· كانت تلك الأصوات هي الدليل الوحيد على حقيقة وجودهم بعدما تحولت هيئاتهم الداكنة الى جزء من أثير ذلك الليل المظلم وتلاشوا في جوفه تماماً عندما انعطفوا الى جهة اليمين واختفوا من مجال الرؤية، خفتت أصوات أحذيتهم واندمجت في همهمات الليل المبهمة· بقيت هي وأبوها وحدهما في الشارع لا يصدقان ما حدث ويتصوراه جزءاً من غموض الظلام وأسراره المحيطة بهما، ثم دخلا البيت وأغلقا الباب وعّبر وجههما عن ألم أخرس عظيم(2)

Pages