You are here

قراءة كتاب امرأة القارورة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
امرأة القارورة

امرأة القارورة

رواية "امرأة القارورة"، للكاتب العراقي سليم مطر، على الرغم من أن هذه الرواية قد لا تكون "رواية" بالمعنى المتعارف عليه.

تقييمك:
0
No votes yet
المؤلف:
الصفحة رقم: 8
دون أن اطيل عليكم سرد التفاصيل، ولكي تكونوا على بيّنة بظروف العلاقة بين (آدم) و(إمرأة القارورة) هذه، فإنه قبل أن نصل إلى جنيف كنا قد أمضينا أعواماً من الترحال بين مدن الشرق الأوسط وشرق اوروبا· مشاغلنا أنستنا تماماً تلك القارورة القابعة في أعماق حقائب عتيقة وغرف فنادق رخيصة ومخيمات تدريب عسكري وقطارات وغابات وقصور مهجورة· بعد ثلاثة أعوام ترحال بين بلدان وتجارب خائبة، استقر مقامنا في مدينة جنيف ببحيرتها المتموجة بفضة زرقاء خضراء، والراقدة بين سلستي جبال الألب وجيرا·
 
وصلنا صيف 1981، أوائل اندلاع الحرب· ثلاثة أعوام عربيدة من البحث والتجوال حتى قادنا قطار الزمن إلى هذه المدينة المهذبة· اختلفنا أنا وإياه كثيرا وتصارعنا كثيراً، وتحالفنا وتعاونا كثيراً· قد يصح القول إنه كان الفكر والتعقل والخوف والإنطواء، وأنا كنت الروح والشهوة والتهور والاندفاع· للخلاص من منفى وطن اخترنا أوطان منفى، بعد ان غدت حياتنا كقطار سريع يفرض علينا التعرف إلى أناس والمرور بمُدن وتعلم لغات جديدة وأسماء مزيفة وأفكار وأحلام وثورات وانتكـاسات، مندفعين إلى الأمام بلا عودة إطلاقا· تعلمنا لغة السلاح، خططنا لثورات خائبة، تشردنا وجعنا وسرقنا وسجنا· امضينا ليالي في قطارات وبيوت مهجورة ونحن نحلم بسجن نظيف لعله سينقذنا من الموت برداً في حدائق أوروبا، حتى استقر بنا المقام هنا·
 
منذ ان وصلنا إلى جنيف اختار هو الزواج والاستقرار والعزلة وتكريس كل شيء من اجل المستقبل· أتقن اللغة وتعلم إدارة الحاسوبات واشتغل· يحلو له احياناً أن يهمهم أمامي بعبارة مكررة:
 
ـ ماضيّ موحش وقاسي كالدغل، كلما اقتلعته، رغماعني ينبت في حديقة حاضري!
 
لا أدري إن كان يعتبرني أنا أيضاً من بين ذاك الدغل؟
 
قبل أن تظهر لنا (سيدة القارورة) وتفتننا بخوارقها وعجائبها، كان (آدم) يمضي حياة هادئة في شقة صغيرة مع زوجته (مارلين)، فتاة وديعة من بنات هذه المدينة· كانت تشاركه ذلك الشغف العظيم إلى الجمال المقدس· لعله قد وجد فيها الكثير مما حرم منه في حياته: بتواضعها ورقتها وصفاء روحها وجد بعضاً من توقه إلى حنان الأم وشفقتها· في ملامحها الطفولية وعينيها الخضراويتين المندهشتين وجد صورة (ايمان) معبودة طفولته إذ لا تزال جذورها حية في أعماقه· في ذكائها وفضولها للمعرفة والبحث وجد فيها رفيقاً أنيساً يشاركه في لعبة السؤال والجواب السرمدية· خصال زوجته هذه كانت كافية لكي يعشقها ويخلص لها، لكنه ظل أبداً يحس بحرقة نيران التوق إلى (سجينة) رأسه، تلك المرأة الغامضة التي سوف احدثكم عنها فيما بعد· منذ عشرين عاماً وهي تقطن روحه· منذ أن فارقته لتدفن حية لبثت في ذاكرته لتقض مضجعه وتسبب له كآبة وحيرة مشاعر إزاء جميع النساء!
 
هكذا اكتفى (آدم) بحياته العائلية وإنقطع تماما عن كل ما يمت الى الوطن بصلة· رغم تعاظم الفرقة بيننا، إلا اني كنت الشخص الوحيد من أبناء بلده الذي يلتقي به، وبين فترات متباعدة·
 
أما أنا، فقد تفاقم عبثي وتعاظمت شهواتي لكل ما هو ممنوع ومحرم في حياتي السابقة وحيوات حتى أسلافي· كنت أنا دائماً ذلك المراهق الطائش، الشهواني العربيد المتشبث بتلابيب الحاضر حتى يرد إليّ أضعاف وأضعاف ما اغتصبه مني في الماضي· انغمست بعنفوان قياسي في عوالم من نساء وخمرة وحشيش ورقص حتى الفجر· جربت كل المحرمات ومبدئي أن أفعل كل ما اشتهيه ما دام لا يؤذي الآخر·
 
مع الأعوام وتطبع(آدم) على الحياة الجادة المنظمة، كانت روحه تهرم أكثر فأكثر حتى صار اشبه بشيخ عاقل بعد ان يأس من حلم نبوّته وثورته الفاضلة· يبدو انه وجد في عوالم حاسوبه (الكومبيوتر) تعويضاً عن فلسفات التغيير ونظريات تعقيم الشعوب، وفي حنان زوجته ما يعوضه عن دفء أحضان القضية!
 
كان يحلو لي احياناً أن أمزح معه بوصف معضلتنا بأننا كنا سمكتين بلون واحد هو الأحمر، ثم إنحدر بنا الزمن إلى نهر ماؤه أصفر وسمكه أصفر· أنا احاول البقاء بلوني الأحمر وهو يحاول أن يستحيل إلى أصفر، بينما الواقع يفرض اكتسابنا لوناً برتقالياً ينتج عن امتزاج الأحمر والأصفر· إننا كما يقول الروس، خرجنا من الريف ولم نصل إلى المدينة· ربما يكون (آدم) مثل معظم الأخلاقيين والمحافظين، يستغنون عن الشيء ويتجنبونه، لا لأنهم يمقتونه أو يرفضونه، بل لأنهم يئسوا من امتلاكـه والسيطرة عليه!
 
مهما فكرت يصعب علي تحديد الفوارق بيني وبين (آدم)· لم يكن تناقضنا وحده هو الفارق بيننا، إنما لأن في كل منا تناقضات تجمعنا وتشتتنا في نفس الوقت، أشبه بجيوش مهزومة قد ضاعت فيها الأمجاد والمراتب· يحدث أحياناً أني أنعته بأوصاف أجهل بأني احملها ايضا! من الصعب تكوين رأي بخصوص بعض الفوارق الحياتية الواضحة بيني وبينه· كان يكافح ماضيه بنسيانه وتجنب كل ما من شأنه أن يذكره به، وخصوصأ ابناء وطنه·· أما انا فكنت اعرف جيدا ان ماضيّ وحش يلاحقني اينما رحلت، وليس هنالك من حل غير الإلتفات اليه ومراوغته واللعب عليه لعلي انجح بتدجينه وتحويله الى كلب وفي
 
ذات يوم، أعتقد في شتاء 1988، هبط (آدم) إلى القبو ليجلب أدوات التزحلق على الجليد ليمارس رياضته المعهودة مع زوجته· أثناء نبشه الأغراض المتراكمة في الزحمة، لمح القارورة! كانت مركونة في زاوية مثخنة بعتمة ورطوبة وخيوط عنكبوت، متكئة على حائط كأنها تستريح من انتظار· رغم عجلته وانتظار زوجته، فإن رعشة تأنيب ضمير سرت ببدنه واشتعلت في قلبه جمرات حنين إلى ماضيه· تذكر موت أبيه وحاجياته العتيقة· تخيل مشهد أمه وحيدة في دار خوت من أبناء وبنات· الذين لم يخطفهم الزواج والقبر والمنفى، فإن الحرب قد أتت وأتمت خطف الباقين· أعوام تسعة مضت على فراقهم، صورهم امتزجت بصور حرب كان يتحاشى حتى الإنصات لأخبارها· سبعة أعوام الحرب قد فاقمت في ذاكرته شحوب صورة الوطن وقتامته· لم يرث من تاريخه غير الخوف· في طفولته، كان يمضي ليالي أرق خوفاً من الموت، ان ينام ولا يستيقظ· كان يخاف جهنم بعد أن وصف أبوه انواع عذاباتها التي تجعل (حتى شعر الأصلع ينبت ويقف)، هكذا علقت بذلك امه ذات مرة وهي تشير إلى رأس ابيه· كان(آدم) في حقيقته يتمنى الموت مبكراً· لأنهم قالوا إن الله يغفر ذنوب الطفل حتى سن السادسة· طريقه مضمون إلى الجنة! منذ ذلك اليوم تعرف أحدنا إلى الآخر، هكذا كأننا توأمان في بدن واحد· هو عاشق للموت من أجل نسيان بؤس الحياة ولبلوغ الجنة، وأنا من أجل نسيان الموت كنت اخلق لذة الجنة في لحظات الحياة·

Pages