You are here

قراءة كتاب الأوديسة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الأوديسة

الأوديسة

كتاب " الأوديسة " ، تأليف هوميروس ترجمه إلى العربية دريني خشبة ، والذي صدر عن دار التنوير عام 2013 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
4
Average: 4 (1 vote)
المؤلف:
دار النشر: دار التنوير
الصفحة رقم: 3

سقطت إليوم(2) ونزح المغير عنها بخيله ورجله، فتعالي يا عرائس الفنون فافقدي أوديسيوس في ذلك البحر اللجي يذرعه؛ موجة تلبسه وموجة تخلعه، لا يعرف لمملكته ساحلا فيرسو عليه، ولا شاطئًا فيقصد إليه... يخبط في اليمِّ على غير هدى، ويرسل عينيه في الماء والسماء على غير بصيرة... زرقة متصلة في العلو والسفل، وتيه لا نهائي يخبط في أحشائه أسطول السادة المنتصرين...

والأقدار وحدها تعلم لماذا ضل أوديسيوس بجنوده في ذلك العباب، وقد عاد كل أقرانه إلى هيلاس بعد طول النأي وشحط المزار، إلا هو وإلا هم، ممزقين في دار الغربة كل ممزق، يتجشمون المصائب والأهوال، ويتخبطون بين موج كالجبال، ويخلصون من بحر إلى بحر، ومن روع إلى روع. فإذا أرسوا على أرض وظنوا أنهم نجوا، أفزعهم فيها غير الذي رجوا...

ولقد رقت قلوب الآلهة، وودوا لو أدركوا برحمتهم أوديسيوس... إلا نبتيون الجبار، رب البحار، الذي يضمر للبطل في أعماقه كل كراهية وكل بغضاء، والذي آلى أن يصب على رأسه كل تلك الأرزاء...

وحدث أن كان نبتيون في حرب مع الأثيوبيين، فانتهزها الآلهة فرصة سانحة، وعقدوا مجلس الأولمب في ذروة جبل إيدا، وتفضل الإله الأكبر، زيوس(3)، فافتتح الجلسة بكلمة مخلصة توجع فيها لما يلقاه من بني الإنسان من صروف الحدثان، واستطرد فذكر مأساة أجاممنون المسكين وما لقيه على يدي زوجه وعشيقها الأثيم إيجستوس من غدر وغيلة، ثم أنحى باللائمة على هؤلاء البشر البائسين الذين يقولون إن كل ما يصيبهم من خير وضير هو من عند الآلهة، وما هو إلا من عند أنفسهم... ولكن لا يفهمون؟

ثم نهضت مينرفا ربة الحكمة، ذات العينين الزبرجديتين، فأيدت ما قال أبوها سيد الآلهة، وأثنت عليه، ثم ذكرت أوديسيوس... «ذلك التعس المسكين الذي تخطفه هو وصحبه البحر، وقُضي عليه دون أقرانه جميعًا أن يشقى هذا الشقاء الطويل، عند عروس الماء الفاتنة كلبسو في جزيرة أوجيجيا، ثمانية أعوام أو يزيد ما ذنبه؟ ما جريرته؟ لماذا ينفى هذا العبد الصالح في أقصى الأرض يا أبي؟ خير عبادك أجمعين، أذكّرك: ضحى الأضحيات باسمك، وقدم القرابين من أجلك، وحارب أعداءك وجاهد شانئيك! لقد نمى إليّ أن كلبسو تحاول جاهدة أن تستميل قلب البطل، وأن تنسيه وطنه إيثاكا... يا للهول! كيف يا أبتاه! وهذه الزوجة التعسة بنلوب؟! بنلوب المحزونة المرزَّأة! بنلوب التي صبرت وصابرت طوال هذه السنين على ماكرثها الدهر به من بعد زوجها؛ بنلوب التي حافظت على طهرها وإخلاصها؛ أتظل هكذا سجينة في قصرها المنيف الباذخ، ويظل هذا القصر محاصرًا بخطابها المجانين من أمراء الأقاليم!! أبي! يا سيد الأولمب! ألا تدرك برحمتك أوديسيوس، وترده إلى وطنه ليذود هذه الكلاب التي ولغت في حوضه، وكادت تخوض في عرضه؟ تداركه يا أبي، تداركه بعطفة واحدة منك، وإنك على إنقاذه لقوي مكين».

واستجاب لها سيد الأولمب، وقضى أن يعود أوديسيوس إلى إيثاكا؛ لكنه ذكرها برب البحار نبتيون، وذكرها بما بينه وبين البطل من تراث وثارات، سببها هذه الفعلة الجنونية التي فعلها أوديسيوس بواحد من السيكلوبس(4)، أبناء نبتيون، إذ اقتلع عينه الواحدة التي كان ينعم بسبيلها بزينة الحياة... اطمئني يا بنية وقرّي عينًا.. إننا نحن الأعلون، وسيرى نبتيون أنه لن يغلب الآلهة مجتمعة أبدًا...

وشاعت الغبطة في أعطاف مينرفا، وتضرعت إلى مولاها أن ينفذ ولده هرمز إلى جزيرة أوجيجيا فيأمر عروس الماء كلبسو أن تعد مركبًا عظيما لأوديسيوس ورفاقه، ليعودوا عليه إلى أوطانهم؛ ثم ذكرت أنها ستمضي من فورها إلى إيثاكا حيث الخطاب المآفين يحاصرون قصر بنلوب، وحيث ابن أوديسيوس المنكود، تليماك، يشهد خراب مملكة أبيه ولا يستطيع أن يحرك ساكنًا، لصغر سنه.. «إني سألهب إحساسه، وأفتح عينيه على ما ينبغي... سأجعله يخرج من هذه العزلة المعيبة ليبحث عن والده، فإنه لم يعد طفلا بعد..».

وانطلقت مينرفا فربطت نعليها السحريتين، على قدميها الجميلتين، وحملت رمحها العظيم الذي تقطر المنايا من سنانه، ووضعت تاجها المرصع على رأسها الكبير، وأطلقت ساقيها للريح حتى كانت بعد لحظة على مقربة من قصر أوديسيوس، فهبطت من السماء إلى الأرض؛ وفي لمحة انقلبت فاتخذت شكل الآدميين، وتخايلت في جسمان الأمير منتس(5) وطيلسانه، ثم تقدمت فدخلت ردهة القصر الواسعة، حيث اجتمع الخطاب المجانين من أجل وليمة، وتلفتت يمنة ويسرة، ورأت الفتى السادر الساهم الحزين تليماك، وقد تعقدت فوق جبينه هموم... وهموم، وتغضنت ملء أساريره آلام... وآلام.

وما هو إلا أن لمحها تليماك حتى أخذه من هيبتها شيء عظيم... فهب للقائها مسرعًا، ثم مد إليها يده مصافحًا وهو لا يعرف من هي، وقال: «مرحبًا مرحبًا بالغريب المكرم! هلم فشارك في ذلك القرى، ولنتحدث بعدها فيما أقدمك إلينا. مرحبا وأهلا وسهلا!...» ودلف نحو الصالة المزخرفة، وتبعته مينرفا، وفي يمناها رمحها الجبار الذي يقدح من سنانه الشرر؛ حتى إذا بلغا العمود الأكبر الذي أسندت إليه مئات الرماح، والذي كان أوديسيوس يسند إليه رماحه وعدة حربه، تناول تليماك الرمح وأسنده بعد جهد، حيث برز بكل عظمته وكل جلاله بين رماح الخطاب الفاسقين. وتقدم نحو أريكة وثيرة منعزلة، وسأل مينرفا فاستوت عليها، وكانا ثمة بمأمن من أن يستمع إليهما أحد... وأقبلت جارية فينانة رائعة تحمل طستًا وإبريقًا من الذهب، فصبت الماء على يدي الضيف ويدي تليماك؛ ثم مضت فأحضرت مائدة نسقت عليها الورود والرياحين، ونشط النادل(6) يحمل أطباق الطعام والفاكهة والحلوى، يأتي بها ملأى ويمضي بها فارغة... والندمان(7) فيما بين ذلك يجذب الزق(8) إليه ويسقى... ثم يسقى... وشرع الخطاب المجرمون بدورهم يلتهمون ما لذ وطاب من أكل وشراب... حتى إذا انتهوا شرع فيميوس نايه وانطلق يغني.

وانتهز تليماك فرصة انصراف القوم إلى لهوهم وشرابهم فسأل الضيف قائلا:

«يا أعز الأصدقاء! أرأيت إلى أولئك الفساق؟ لو أن رب البيت هنا، أكانوا يلهون لهوهم هذا أو يفسقون فسوقهم هذا؟ كلا! لقد كانوا إذن أسرع إلى الهرب، منهم إلى ذلك الطرب؛ ولكن... أواه!... أين هو! أين أوديسيوس العظيم الذي انقطعت عنا أخباره ويئست من أوبته دياره. ولكن حدثني بربك من أنت؟ ومن أي الأقاليم قدمت؟ ومن هم رجال البحر الذين ألقوا مراسيهم عند إيثاكا؟ أغريب أنت أيها السيد؟ أم كنت فيما خلا من الزمان من أصدقاء أبي وأحبائه؟».

وقالت مينرفا ذات العينين الزبرجديتين:

«ليهدأ بالك يا بني، فإني مجيبك على كل ما سألت. إنك ترى الآن منتس أمير (جزيرة الطافيان) البحارين، وسليل انخيالوس الكبير. ولقد أبحرنا من جزيرتنا ميممين شطر جزيرة النحاس من أجل ذلك المعدن الثمين، وسفننا ملقية مراسيها بالقرب من غابات (نيوس) ولقد كنا ولا نزال من أحب ضيفان أبيك وأودهم إلى فؤاده، فلما سمعنا بما حل به من شدة، وبيته من لأواء، استوحينا آلهتنا فخبرتنا أنه لابد عائد إلى وطنه سالمًا غانمًا، وأنه لابد منتقم من هؤلاء الفجار الأشرار.. ولكن خبرني بأربابك، أفي الحق إنك لأنت ابن أوديسيوس العظيم؟ إن ملامحك تشبه ملامحه، وإنك لقريب الشبه منه جدًا، وإن هذا البريق الذي يشع من عينيك هو نفسه الذي كان يشع من عيني أوديسيوس، يالآلهة! كم سَمْرتُ إلى أبيك قبل أن يشد رحاله إلى طروادة! فهل يقدر لي أن أسمر إليه مرة أخرى؟ إنني من وقتها إلى اليوم لم أره، وهو كذلك لم يرني... ألا ما أشد شوقي إليه! ما أشد شوقي إليه!...».

Pages