You are here

قراءة كتاب صمت يتمدد

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
صمت يتمدد

صمت يتمدد

كتاب " صمت يتمدد " ، تأليف سليمان الشطي ، والذي صدر عن دار المؤسسة للدراسات والنشر .
ومما جاء في مقدمة الكتاب :

تقييمك:
0
No votes yet
المؤلف:
الصفحة رقم: 7

دعاني إلى حفلة غير رسمية فأدركت منذ اللحظة الأولى أنه شخص مهم في سفارته، موقع غير مصنف في القسم الدبلوماسي، مهمته تائهة بين الأقسام الملحقة بالسفارة، لقاءات متكررة بيننا، حطمت معرفتنا السابقة حواجز الرسميات ؛ فعندما نلتقي، يعود إلى طبيعته التي أعرفها· دعابته الجادة والحادة لا تغيظني، يلمس تجمد الأهداف المحدودة عندي فيكشف نفسي المعتقة، يذكرني باختياري فيشير إلى ما حولي من مسافة واضحة الفراغ· أشعر بها ولا أراها ؛ فأنا لا أنقب كثيرا· أحيانا يبدي إعجابا يتراجع عنه·

قال لـي منبها: هذا عالم غريب، أنت لا تنتمي إليه ما الذي أدخلك فيه؟·

لم أقل له أنا هارب إليه··

لم يكن ينتظر إجابة فقد واصل كلامه: جِلد الدبلوماسيين تشكل من طبقات هي نموذج للتنافر المنسجم· لا ندري ما هي اللحظة التي تتبدل فيها الجلود ويحل مظهر محل غيره، ومع ذلك فسرعان ما تتوافق الموجتان المتعاكستان· أما الكلمات فهي بوابة لا تفضي إلى شيء، لا تساعدك على النفاذ إلى الشخص الذي أمامك·· مساكين عليهم أن يحسنوا لبس الأقنعة، أن يتحدثوا ولا يقولوا شيئا، غابة من التفسيرات يصطدم بعضها بالبعض الآخر· إن وراءهم دائما حسابا عسيـرا· اسألني؟

استجابتي له هز الرأس· يتحكم بي حذر اعتدته فعشش، التردد في داخلي يحاول إبقائي نائيا· رغبة عندي في أن أنتزع هذا التحفظ ؛ مع يحيى يجب أن تتبدل المواقف· انفتاح اللحظات التي يخلو الفرد فيها لذاته، لقد شهد كل واحد منا قاع بحر الآخر في لحظات الانكشاف، فوقفنا على أرض بحر موسى التي انفلقت للمؤمنين ثم عادت المياه لتطمرها مرة أخرى·

لمست عند يحيى مللا يحركه شعور خفي يميل إلى تمزيق تلك الأقنعة التي تحرث الوجه، تنمذجه، تحول إلى عادة، يعرض كل هاجس عنده بثورية لا يمكنه التخلص منها· خاصة في آخر الليل· قال: لابد أن نفعل شيئا، نتخلص من هذه البلادة··

لم أحس يوما بما حوله من بلادة، فقد كانت حركاته ونشاطه يشيران إلى أنه مركز لحركات دائبة··

- مثل ماذا؟

وتظاهر بالتفصح في مفرداته

- الفسق مفيد في بعض من الأحيان·

وتوقف وكأنه يفكر في جملته

- بل في كل الأحيان·

حينما انفردنا ظهر منه انفتاح منفلت· يجلس هاربا من يومه، يضع الكأس أمامه· ينظر إلى صديقته حين تغادر راضية مبتسمة· تتجول نظراته في الغرفة كأنه يفحصها، يلتفت إليّ، حالة تعتريه تتردد بين خطاب للنفس وبث الشكوى لي:

- من يحكم من؟·· تقاطعت الطرق الدائرية، ونقطة البدء والمنتهى واحدة، تجاذبت المستويات فإذا الفارق بينها صفر، عالم التوازن والتوازي هو الذي أتاح لهما تناوب السيطرة، يتغير السلام الوطني ويرفع الآخرون الجدد أيديهم للتحية· وهكذا مرت السنوات الثمينة ومعها سيرك الشعارت، سكون الحركة عكس الحركة الساكنة التي هي ضد الجدل· هكذا كنا نتحدث· تفلسف في غير محله ولا وقته· عندنا رؤوس ومجار بأيهما نبدأ؟· هل سمعتني يا صلوحي: عندنا رؤوس عفنة كالمجاري ومجار منهارة فبأيهما نبدأ·· البداية تكون من البنية التحتية ونحن نبدأ وننتهي بما تحت السرة·· تفوه من اللاشيء على كل شيء··

أفرغ ما لديه، اعتاد على استجاباتي المتحفظة، أشار إلى الكأس ساخرا:

- في··· تك··

بدأت لعبة سخيفة· كنا نسير بعد حفلـة سقيمة على الشاطئ المتدرجة أضواؤه مـن العتمة والسطوع والانعكاس· غالبني قيء مفاجئ، وضعت يدي على فمي، تقيأت خلف شجرة، يحيى واقف ينظر إلي بتحفز مَن لمعت في ذهنه فكرة جديدة، أعود وأنا أمسح بقايا القيء من طرف فمي· استقبلتني ضحكة عالية، يسحب بعنف غصنا صغيرا من شجرة معترضة طريقنا، يتربع جالسا على الأرض:

- وجدتها أخيرا !· أنت تلهمني حتى في تقيؤك· أنت صديقي الوحيد الذي فشلت في تجنيده·· سأختار لك نضالا مناسبا·· ما رأيك لو تقيأت الكلمات؟· نغسل ألسنتنا وننشط آذاننا في تقيؤ شتائم أولاد الكلب الذين يخرون على أكتاف الأمة من الزعماء الورق·· ننظِم جلسة نشتم فيها هؤلاء وتابعيهم الملحقين بهم··حفلة أنتيم من الشتائم المعتبرة· يا أخي إذا لم تستطع أن تفعل شيئا فساهم في هذا المجهود··

تذكرت تعليق مدرسنا الثائر الذي كان يُدخل السياسة في شرح درس العلوم، فأوصله هذا إلى أن رأيته مقيد اليدين يطبع توكيلا لصديقه كي يتولى التصرف في متعلقاته حين تم الحكم عليه بالإبعاد حالا·· تذكرت قوله المتهكم: إن فرس النهر يفتح فمه فتأتي الطيور لتنظف أسنانه· هكذا نحن بالنسبة لهؤلاء الحكام ننظف حكمهم المطلق من أفواههم الكريهة···

أجهل دائما أسباب يحيى ودوافعه، لم أكن مهتما كثيرا بكشفها، ولكن الفكرة استهوتني·

- في داخلي بركان من مفردات الشتم آن لها أن تطفح على السطح· اقترح عليّ أن يكون لقاء السبت الأسبوعي هو يوم التنظيف العالمي··

- شوف يا صلوحي، أقترح استخدام الرموز، كل مشتوم له رقم، تدري ليش· آني عندي هدف، أحتفظ للزعماء الكبار بالرقم سبعة، أليس هو يوم الراحة بعد خلق العالم الذي يدمرونه ويجلسون على تلته في اليوم السابع المقدس، عندنا مجموعة من هؤلاء الزعماء س7، ح7، ع7 حتى نغطي العدد الكبير من هؤلاء السفلة· الرقم 6 لرؤساء الوزارات الذين يديرون مملكة الخراب وهكذا ننزل إلى كل المشتومين الأقزام· حتى يأتي اليوم الذي ننفخ عليهم ليطيروا··

- أنت تبحث عن عزم ينفخها لتطير، أما أنا فأحلامي تقف عند حد فلست معنيا بأن أغير شيئا·

- ولكن من المفيد أن نرى القبح، نتحدث عنه، نخرجه ليلتهمه الفراغ··

خَلت أولى جلساتنا من جفاف الحديث المباشر، اللغة الخاصة تدور حول المواقف والأسرار ولا تدخل إليها· حََكَم الجلسة طقس وشرط واحد ألا يدور فيها إلا لغة الشتم وأن لا نذكر أحدا بخير· جلسنا متقابلين نشتم الآخرين· كان سعيدا باللعبة التي اقترحها، أحسست أنه من خلالها ينزع نفسه ويضعها في الجانب الآخر ويتأملها·

لعبة كان ثمنها غاليا بالنسبة له، تم سحبه من السفارة بطريقة فجة، كلماته وصورته الأخيرة حاضرة، قال بحسرة ونظرة حزن:

- لن أرى غيداء بعد الآن··

علمت أنه اعتقل، اختفت أخباره· ولكن سرعان ما انقلبت الكراسي، وأصبح الخارج داخلا، والعالي سافلا· لمع مرة أخرى على السطح··

Pages